PDA المساعد الشخصي الرقمي

عرض كامل الموضوع : زرياب وأثره في الحياة الاجتماعية والفنية في الأندلس



عبادي فنان العالم
13-03-2014, 12:53 PM
زرياب وأثره في الحياة الاجتماعية والفنية في الأندلس

------------------------------------------------------------------------


تناول هذا البحث حياة المغني والموسيقي زرياب، وأثره على الحياة الاجتماعية والفنية في الأندلس، ويشتمل على سيرته في بغداد، وتاريخ رحيله إلى الأندلس وأسبابه، وتأثيره في حياتها الاجتماعية في المأكل والملبس والسلوك، وفي حياتها الفنية بما أدخله من تحسينات على العود، وتلاميذه في الغناء والموسيقى، وقد توفي زرياب عام 243هـ عن عمر يناهز سبعين عاماً.

يُعد زرياب من موالي الخليفة العباسي المهدي، وقد ولد ببغداد في حدود سنة 173هـ، ثم تلقى تعليمه في مدرسة اسحق الموصلي الفنية ليصبح أشهر تلاميذها، وقد مكنه ذلك من الاتصال بالخليفة الرشيد في آخر أيامه، إلا أن تردي الأوضاع الاقتصادية في بغداد بسبب الفتنة التي أعقبت وفاة الرشيد، وخلافه مع أستاذه الموصلي، وخوفه على نفسه من المأمون لأنه كان من أنصار الأمين، ورغبته في تحقيق المجد والشهرة، دفعته إلى الهجرة إلى الأندلس، حيث حظي برعاية الإمارة الأموية فيها حتى وفاته، و نال خلال حياته فيها الشهرة والثراء الأمر الذي أثار عليه حقد حساده ومبغضيه، وترك زرياب أثاراً جمة في حياة أهلها الاجتماعية في المأكل والملبس، واستخدام مواد التجميل، هذا فضلاً عن التحسينات العديدة التي أدخلها على آلة العود، وفي مقدمتها إضافة الوتر الخامس فيه، ومدرسته التي خرّجت العديد من مغنيي وملحني الأندلس والمغرب وأوروبا.


سيرته قبل رحيله إلى بغداد :

هو أبو الحسن علي بن نافع الملقب بزرياب (1)، وقد غلب اللقب على الاسم حتى شهر به. وتعزو المصادر التاريخية، التي ترجمت لحياته، سبب اللقب إلى أن زرياب لقب به في بلده «لسواد لونه، مع فصاحة لسانه، وحلاوة شمائله، شبه بطير أسود غًرِدٍ عندهم». (2) لعله البلبل المشهور بعذوبة تغريده وسواد لونه.

في حين تذكر المعاجم اللغوية أن الكلمة فارسية معربة، وتعني الذهب أو الأصفر من كل شيء (3) ؛ أي أنه لقب بزرياب؛ لأنه صاحب صوت ذهبي. وقد وردت الكلمة في الشعر بمعنى الذهب، على لسان أحد شعراء العصر العباسي الأول يمدح مجلس أنس حضره فيقول:

في مجلس مطرت سماوة سقفه .. ثمر النعيم تخـاله زريـابـا

وحملت مغنية عاشت في العصر العباسي الأول اسم زرياب (5). وليس هناك ما يشير إلى أنها كانت سوداء اللون، وهذا يشعر بأن اللقب لا يتعلق بسواد اللون المقرون بجمال الصوت، فقد كان إبراهيم بن المهدي العباسي المعاصر لزرياب، مغنياً مشهوراً، عذب الصوت، أسود اللون(6). ولم يلقب بزرياب.

يفهم مما تقدم أن كلمة زرياب تعني الذهب، وأنها أطلقت على صاحب الصوت الجميل على سبيل المجاز تشبيهاً له بالذهب. وما زال هذا الوصف شائعاً حتى وقتنا الحاضر؛ إذ يقال لصاحب الصوت الجميل، إنه صاحب صوت ذهبي. على أن تفسير اللغويين والمؤرخين متقارب. إذ أن كليهما يدل على صاحب الصوت الجميل.

ولم تحدد المصادر الأولية التي اعتمد عليها البحث مكان ولادة زرياب وتاريخها، وينفرد بروفنسال من بين المراجع الحديثة التي ترجمت له بالقول: إن زرياب ولد في العراق سنة (173هـ/ 789م) (7) دون أن يشير إلى المصادر التي استقى منها معلوماته، ولا تذكر المصادر شيئاً عن طفولته سوى أنه من موالي المهدي العباسي (158-169هـ/ 774-785م) (8). وربما جاءه هذا الولاء عن طريق والده، لأن زرياب ولد بعد وفاة المهدي بسنوات عدة، وقدّمه إسحق الموصلي للرشيد على أنه عبد له (9).وربما يعود الغموض في سيرته الأولى إلى كونه مغموراً في صباه، فلم يهتم به أحد من المؤرخين.

تَلقّى زرياب تعليمه في مدرسة إسحق الموصلي* الفنية، التي تميزت باهتمامها برفع المستوى الثقافي لتلاميذها، فضلاً عن تعليمهم الموسيقى والغناء، فكانوا يتلقون دروساً في مختلف علوم عصرهم كالقرآن، والآداب، والتاريخ، يستشف ذلك من وصف اسحق الموصلي لبرنامج تعليمه اليومي، فيذكر بأنه كـان يبدأ يومه بدراسة القرآن عند الفراء (ت: 207هـ) والكسائي (ت: 183 هـ)، ثم يذهب فيتعلم عزف العود من خاله زلزل**، ويعقب ذلك برواية الأخبار والأشعار على الأصمعي (ت: 213 هـ) وأبي عبيدة (ت: 211 هـ)، ويختم برنامجه بدرس في الغناء عند عاتكة بنت شهدة (10) وقد انعكس ذلك على زرياب فتخرج من هذه المدرسة موسيقاراً بارعاً، ومغنياً لامعاً فضلاً عن معرفته بعلوم الفلك والجغرافية حسبما أورده المقري: «كان زرياب عالماً بالنجوم، وقسمة الأقاليم السبعة واختلاف طبائعها وأهويتها، وتشعب بحارها، وتصنيف بلادها وسكانها، مع حفظه لعشرة آلاف مقطوعة من الأغاني بألحانها»(11). ويضيف المقري إلى ذلك «معرفته الواسعة بالتاريخ وأخبار الملوك، فلما رحل إلى الأندلس، وخلا به الأمير عبد الرحمن بن الحكم ذاكره في أحوال الملوك وسير الخلفاء، ونوادر العلماء، فحرك منه بحراً زخر عليه مده، فأعجب الأمير به، وراقه ما أورده»(12). وبالإضافة إلى ذلك فقد كان زرياب شاعراً مجيداً (13) ومن شعره هذه الأبيات:


علقتهــا ريحانــة هيفاء عاطرة نضيــرة
بين السمينة والهزيلـة والطويلة والقصيـــرة
للــه أيــام لنــا سلفت على دير المطيـرة
لا عيـب فيها للمتيـم غير أن كانت قصيــرة

وقد ساعدت هذه الثقافة الشاملة على تفجير طاقاته الإبداعية في النواحي الاجتماعية والفنية فيما بعد.



رحيله عن بغداد إلى الأندلس:

تعزو بعض المصادر سبب رحيله عن بغداد إلى حسد أستاذه الموصلي له، وخوفه من أن يحتل زرياب مكانه عند الرشيد بعد أن نال غناؤه وعزفه إعجـاب الخليفة(15). ورددت ذلك الدراسات الحديثة التي تناولت الموضوع دون نقد أو تمحيص16). ويورد المقري القصة بتفاصيلها فيذكر أن الخليفة هارون الرشيد طلب من إسحق الموصلي أن يسمعه صوت مغنّ مجيد الصنعة لم يسبق للخليفة أن سمعه من قبل. فاقترح عليه إسحق أن يأتيه بغلامه زرياب الذي يعود الفضل إليه في اكتشاف موهبته وتعليمه، «وهو من اختراعي واستنباط فكري، وأحدس أن يكون له شأن»(17). وتوقع أن تزيده نجابة تلميذه حظوة عند الخليفة، لكن الأمور جاءت بخلاف ما تمناه، فلما دخل زرياب على الرشيد بدا واضحاً أنه واثق من نفسه معتد بفنه، فقد رفض أن يستخدم عود أستاذه، وطلب من الخليفة أن يأذن له باستخدام عوده الشخصي الذي أحضره معه، ولم ير الرشيد في عود زرياب ما يختلف عن عود أستاذه، فقال لزرياب: "ما أراهما إلا واحداً ". لكن زرياب بيَّن للخليفة أن التشابه في الشكل الخارجي فقط، وأن هناك فروقاً جوهرية غير ظاهرة منها، أن عوده أخف وزناً من عود أستاذه، كما أن أوتاره أمتن وأفضل أداء للنغم، فأعجب الرشيد بوصفه وسمح له في الغناء بعوده، فلما أتم غناءه طار الرشيد طرباً، وقال لإسحق:"خذه إليك وأعتن بشأنه حتى أفرغ له، فإن لي فيه نظراً"(18).

هاج بإسحق الحسد، فخلا بزرياب، ووبخه على إخفائه قدراته عنه، وعبر له عن مخاوفه من إعجاب الرشيد به قائلاً: «قد مكرت بي فيما انطويت عليه من إجادتك وعلو طبقتك، وقصدت منفعتك، فإذا أنا قد أتيت على نفسي من مأمنها بإدنائك، وعن قليل تسقط منزلتي وترقى أنت فوقي، وهذا مالا أصاحبك عليه ولو أنك ولدي». (19) وخيـره بيـن أمريـن: الرحيل عن بغداد إلى جهة لا يسمع فيها خبره، أو البقاء فيها رغماً عنه، وعندها فإنه، أي إسحق، لن يدخر وسعا في القضاء عليه. فاختار زرياب الرحيل، وأعانه اسحق بالمال والظهر، ورحل زرياب عن بغداد، واتصل بالأمويين في الأندلس، وانتقل إليها في مطلع إمارة عبد الرحمن بن الحكم سنة (206هـ/ 821م)(20).

ويفهم من رواية المقري أن رحيل زرياب من بغداد إلى الأندلس تم مباشرة بعد انتهاء الحفلة التي قدمها أمام الرشيد، وهذا بعيد عن الاحتمال كما سنرى، فالرشيد توفي خارج بغداد، وبالتحديد في مدينة طوس، وهو خارج لقمع ثورة رافع بن الليث سنة (193هـ/808م) (21) بينما دخل زرياب الأندلس في الأيام الأولى من حكم الأمير عبد الرحمن بن الحكم سنة (206هـ/821م) (22). وإذا افترضنا أن زرياب التقى الرشيد في مطلع السنة التي توفي فيها، فإن هناك ما يقارب ثلاثة عشر عاماً بين رحيله عن بغداد ووصوله إلى الأندلس، لا يورد المقري شيئاً عنها. وهذا يدعو إلى الشك في رحيله عن بغداد زمن الرشيد، وهو ما تؤكده رواية ابن القوطية التي تذكر أن رحيله عن بغداد تم في مطلع خلافة المأمون، بسبب خوفه على نفسه؛ لأنه كان من المقربين للأمين، وهذا نص الرواية: «قدم زرياب على الأمير عبد الرحمن بن الحكم رحمه الله، وكان بالمحل القريب من الأمير محمد بن هارون، الأمين، وكان المأمون الوالي بعد الأمين فعدد عليه أشياء. فلما قتل الأمين فر إلى الأندلس، فحل من عبد الرحمن بن الحكم بكل محل»(23). وكان مقتل الأمين سنة (198هـ/813م).

وأول إشارة عن وصول زرياب إلى افريقية تقول إنه دخلها في عهد الأمير الأغلبي زيادة الله الأول (201-223 هـ / 816 – 837م)(24). إذ يذكر ابن عبد ربه أن زرياباً: «انتقل إلى القيروان إلى بني الأغلب، فدخل على زيادة الله بن إبراهيم»(25) في سنة (206 هـ/ 821م)، وأنه لم يمكث طويلاً هناك، لأنه عرض بأميرها في غنائه فغضب عليه وجلده، وأمره بالخروج من القيروان في مدة أقصاها ثلاثة أيام، وقال له: «إن وجدتك في بلدي بعد ثلاثة أيام ضربت عنقك «فجاز البحر إلى الأندلس»(26). وهذا يشعر أنّ زرياباً لم يرحل عن بغداد بسبب حسد أستاذه له، وخوفه على نفسه من المأمون فقط، وأن هناك أسباباً أخرى لا تقل أهمية عن هذه الأسباب، منها: كساد سوق الغناء في بغداد خاصة والعراق عامة في أثناء الفتنة بين الأمين والمأمون، وتردي أوضاع المغنين الاقتصادية الأمر الذي جعل معاصريه من مغنيي بغداد يغبطونه على المكانة التي حصل عليها عند الأمويين في الأندلس، يتضح ذلك بصورة جلية من قول علوية، مولى بني أمية*** ، ومغني المأمون، وقد لامه الأخير على ذكر بني أمية بحضرته: «يا أمير المؤمنين، أتلومني أن أذكر موالي بني أمية، وهذا زرياب مولاك عندهم بالأندلس، يركب في أكثر من مائة مملوك، وفي ملكه ثلاثمائة ألف دينار دون الضياع، وإني عندكم أموت جوعا»(27). ويؤكد ذلك أيضاً ما قاله إسحاق الموصلي إنه: «لما أفضت الخلافة إلى المأمون أقام عشرين شهرا لم يسمع حرفا من الغناء»(28). بل يبدو أن تلك الأوضاع الاقتصادية السيئة كانت موجودة منذ أواخر عهد الرشيد، يستدل على ذلك من عدم صرف الرشيد جائزة لزرياب بعد استحسانه لغنائه(29).

ومن أسباب رحيله أيضاً، طموح زرياب الكبير في الحصول على المجد والشهرة والمال، فهو- على حد وصف أستاذه اسحق:"لا يرى في الدنيا من يعدله"(30)- كان وراء رحيله الدائم حتى وقع على بغيته في الأندلس، فاستقر بها لأنه حقق فيها طموحه وأمانيه، ولعله عرّض بأمير إفريقية الأغلبي؛لأنه لم يجد عنده الرعاية والمكانة التي توقعها،تماماً كما فعل المتنبي بكافور الأخشيدي.

يبدو أن اتصالاته بالأمويين بدأت وهو في بلاط الأغالبة، فعقب طرده مباشرة من هناك، كاتب زرياب الحكم بن هشام الأموي أمير الأندلس يخبره بأنه رأس الصناعة التي ينتحلها، ويسأله الإذن في الوصول إليه»(31). فجاءه رد الحكم بالترحيب به، وبدعوته للقدوم إلى الأندلس، فعبر زرياب بعياله وولده مضيق جبل طارق إلى الجزيرة الخضراء، ولما وصلها بلغه خبر وفاة الحكم، وتولى ابنه عبد الرحمن الإمارة مكان أبيه، وخاف زرياب أن لا يكون عبد الرحمن محباً للغناء كأبيه، ففكر في العودة لكن رسول الحكم إليه، المغني منصور اليهودي، ثناه عن ذلك ونصحه بمكاتبة الأمير عبد الرحمن، فلما كتب إليه رحب به عبد الرحمن «وكتب إلى عماله على البلاد أن يحسنوا إليه ويوصلوه قرطبة»(32).

دخل زرياب قرطبة فخصص له الأمير داراً لإقامته، وبعد أن استضافه ثلاثة أيام استدعاه لمقابلته، فاستمع إلى وصلة من غنائه، ثم طارحه الحديث في أحوال الملوك وسير الخلفاء، فوجده عالماً بها، فأعجب الأمير به، وراقه ما أورده «وقدّمه على جميع المغنين»(33).

وأجرى الأمير عبد الرحمن على زرياب وأولاده الأربعة الذين دخلوا معه إلى الأندلس رواتب شهرية، فجعل لزرياب مائتي دينار شهرياً، ولكل واحد من أبنائه عشرين ديناراً في الشهر، إضافة إلى ثلاثة آلاف دينار سنوياً لمصروفات الأعياد والمناسبات "لكل عيد ألف دينار، ولكل مهرجان ونوروز خمسمائة دينار»(34) وأقطعه من الحنطة والشعير ثلاثمائة مد لغذاء أسرته وعلف دوابه، ثلثها حنطة والباقي شعير." وأقطعه من الدور والضياع والبساتين ما يقوم بأربعين ألف دينار»(35). هذا سوى ما كان يأخذه عن الحفلات الغنائية التي يقيمها، والتي وصل ريع بعضها إلى ألف دينار، وهو ما لم يكن متيسراً لكبار العلماء والفقهاء في عصره، وعلى رأسهم الفقيه عبد الملك بن حبيب السلمي(36). حتى جمع ثروة طائلة فكان: «يركب في أكثر من مائة مملوك، وفي ملكه ثلاثمائة ألف دينار دون الضياع»(37), وحظي باحترام كبير ونال شهرة واسعة فمدحه الشعراء، ومنهم منجم الأمير عبد الرحمن ونديمه(38) والفقيه ابن عبد ربه(39) ،وألفت كتب عن حياته وفنه، فقد ذكر ابن حزم أن أسلم بن أحمد الأندلسي «صاحب تأليف في طرائف غناء زرياب وأخباره، وهو ديوان عجيب»(40).



أثره في الحياة الاجتماعية:

ساعدت ثقافة زرياب الموسوعية الشاملة، وتنقله من بغداد إلى المغرب فالأندلس، وما حظي به في البلاط الأندلسي من احترام ورعاية وتقدير، على تفجير طاقاته الإبداعية التي تجاوزت حدود المجال الفني إلى المجال الاجتماعي، فقد وضع للطبقات الراقية في الأندلس قواعد للسلوك وآداب الجلوس والمحادثة والطعام "حتى اتخذه ملوك أهل الأندلس وخواصهم قدوة فيما سنّه لهم من آدابه»(41) وسمّوه «معلم الناس المروءة»(42).

ففي مجال الطعام وآدابه درّبهم على إعداد مائدة راقية وأنيقة، تقدم فيها الأطباق حسب نظام وترتيب خاص، فًتُقدمُ أولا أطباق الشوربة والسواخن، تليها أطباق اللحم والطيور المتبلة بالبهارات الجيدة، وفي النهاية تقدم أطباق الحلوى من الفطائر المصنوعة من اللوز والجوز والعسل، والعجائن المعقودة بالفواكه المعطرة والمحشوة بالفتسق والبندق(43) . وأخذوا عنه استخدام آنية الزجاج الرفيع في موائدهم بدلاً من الأواني الذهبية والفضية(44) . لأن الزجاج أسهل تنظيفاً، وأجمل منظراً، وأقل كلفة. كما أخذوا عنه اختيار غطاء الموائد الخشبية من الأديم، أو الجلد الأملس الناعم بدلاً من غطاء الكتان، لأن الجلد أسهل للتنظيف «إذ الوضر (الوسخ) يزول عن الأديم بأقل مسحة»(45). وابتكر لهم ألواناً من الطعام لم يعرفوها من قبل، وأشهرها لون النقابا ولون التقلية(46) ، هذا إضافة إلى ما نقله لهم من ألوان الطعام البغدادي وطرق إعداده(47).

وعلمهم فن التجميل والعناية بالبشرة وإزالة رائحة العرق، «ومما سنّه لهم استعمال المرتك المتخذ من المرد اسنج لطرد ريح الصنان من جوانبهم. ولا شيء يقوم مقامه»(48). كما علمهم طرق الخضاب وإزالة الشعر، واستعمال ما يشبه معجون الأسنان في أيامنا(49)، وأدخل إليهم طرقاً لقص شعر الرأس وتسريحه لم يعرفوها من قبل، ذكر المقري أن زرياب دخل الأندلس وأهلها، نساءً ورجالاً يرسلون جممهم مفروقة إلى وسط الجبين، عامة للصدغين والحاجبين، «فلما رأى أهلها تحذيفه هو وولده ونساؤه لشعورهم، وتقصيرها دون جباههم، وتسويتها مع حواجبهم وتدويرها إلى أذانهم، وإسدالها إلى أصداغهم، هوت إليه أفئدتهم واستحسنوه»(50).

ووضع لهم نظاماً لارتداء الأزياء تبعاً لفصول السنة وتقلبات الجو، فرأى أن يلبس الناس الملابس القطنية البيضاء في فصل الصيف الذي يمتد في الأندلس من أواخر حزيران إلى أوائل تشرين الأول، وأن يلبسوا في فصل الخريف الثياب الملونة ذات الحشو والبطائن الكثيفة، وينتقلوا في فصل الشتاء عندما يقوى البرد الى أثخن منها من الملونات، ويستظهروا تحتها إذا احتاجوا بصنوف الفراء، ثم ينتقلوا في فصل الربيع إلى لبس جباب الخز والحرير والدراريع الملونة التي لا بطائن لها(51)، وعلّمهم تنظيف الملابس البيضاء مما يعلق بها من وضر (وسخ) بسبب استخدام بعض أنواع الطيب أو غيره، بوساطة تصعيدها بالملح حتى يبيض لونها(52).

عبادي فنان العالم
13-03-2014, 12:56 PM
أثره في الحياة الفنية :

أثر زرياب في جوانب عديدة من الحياة الفنية في الأندلس، ويأتي في مقدمتها تحسيناته التي أدخلها على آلة العود، وطريقته في انتقاء تلاميذه، وتعليمهم العزف والغناء في مدرسته التي افتتحها في قرطبة، فخرّجت العديد من فناني الأندلس.

أما التحسينات التي أدخلها على آلة العود فكثيرة، وبعضها يعود إلى فترة وجوده في بغداد، إذ صنع فيها عوداً خفيف الوزن، واستخدم مواد جديدة في صناعة أوتاره بحيث جعلتها أمتن وأفضل أداء للألحان، وقد عدد زرياب مزايا عوده للرشيد عندما غنّى أمامه فقال: «لي عود نحتّه بيدي، وأرهفته بأحكامي، ولا أرتضي غيره» وهو يختلف عن عود أستاذه الموصلي بأنه «وإن كان في قدر جسم عوده، ومن جنس خشبه، فهو يقع من وزنه في الثلث أو نحوه، وأوتاري من حرير لم يغزل بماء ساخن يكسبها إناثة ورخاوة، وبمها ومثلثهما اتخذتهما من مصران شبل أسد، فلها في الترنم والصفاء والجهارة والحــدة، أضعاف ما لغيرها من مصران الحيوان، ولها قوة صبر على تأثير وقع المضارب المتعاورة بها ما ليس لغيرها»(53).

وبعد رحيله إلى الأندلس تابـع تحسيناته على آلة العود، فقام بالتخلص من المضراب الخشبي الخشن الذي يؤذي الأوتار ويتلفها، واستبدله بمضراب من قوادم النسر الأكثر خفّة وملاسة وليونة، «للطف قشر الريش ونقائه وخفتّه على الأصابع ، وطول سلامة الوتر على كثرة ملازمته إيّاه»(54) ، وأضاف إلى العود وتراً خامساً، إذ كان العود قبل اختراع زرياب الوتر الخامس يتألف من أربعة أوتار هي: البمّ، والمَثْلَث، والمَثْنى والزير(55)، وصنع الأوتار من الحرير ، أو من الأمعاء الدقيقة للحيوان، ولوّن كل منها بلون خاص حسب طبائع الجسد، وذلك على النحو الآتي: الوتر الأول: البمَّ وهو أغلظ أوتار العود، وقد صنعه زرياب من الخيوط الحريرية الرفيعة، وصبغه باللون الأسود، والوتر الثاني: المَثْلَث، صنعه من الخيوط الحريرية الرفيعة، وصبغ باللون الأبيض، والوتر الثالث المَثْنَى، صنعه من الخيوط الحريرية الرفيعة، وصبغ باللون الأحمر. والوتر الرابع هو الذي أطلق عليه بعد اختراع الوتر الخامس اسم الزير الأول، وهو مصنوع من الخيوط الحريرية الرفيعة. وصبغ باللون الأصفر(56)، والوتر الخامس الزير الثاني، وهو الذي أضافه زرياب إلى العود، وصبغه باللون الأحمر الدموي. وهو مصنوع من الأمعاء الدقيقة لتأدية النغمة الحادة. وكانت أوتار الأصوات الحادة تصنع من الأمعاء الدقيقة، وأوتار الأصوات الغليظة تصنع من الحرير، وجعل لكل وتر طاقة، فطاقة البم 64، والمثلث 48، والمثنى 36، والزير الأول 27، والزير الثاني20.25(57).

واستمر استخدام الأسماء العربية المذكورة لأوتار العود الخمسة حتى نهاية العصر العباسي (656هـ/ 1258م) إلى أن استبدلت بأسماء فارسية هي: (اليكاه- العشيران- الدوكاه- النوى- الكردان)، وظلت مستخدمة حتى حلت محلها الأسماء الغربية في العصر الحديث: (صل- لا- ري- صل- دو)(58).

والغرض من إضافة الوتر الخامس هو أداء النغمة الحادة التي لا يؤديها العود ذو الأربعة أوتار، وهذه المسألة شغلت بال المشتغلين بالفن والموسيقى قبل زرياب، فقد ذكر الأصفهاني أن الأمير إسحق بن إبراهيم بن مصعب ناقش إسحق الموصلي في مسألة صناعة وتر خامس للعود، وحثه على الاهتمام بها قائلاً «أرأيت لو أن الناس جعلوا للعود وتراً خامساً للنغمة الحادة، التي هي العاشرة على مذهبك، أين كنت تخرج منه؟»(59) وقد اغتم إسحق الموصلي من هذا النقاش؛ لأنه خاف أن يسبقه إلى هذا العمل موسيقي غيره.

وافتتح زرياب في قرطبة مدرسة لتعليم الموسيقى والغناء، وكان لا يقبل فيها إلا الطلبة الموهوبين الذين تتوافر فيهم القابليات لهذا الفن، بعد امتحان يجريه لمن يريد الالتحاق بها، ذكر المقري أن زرياباً كان يعرف صاحب الصوت المطبوع من غيره بأن يأمر التلميذ «أن يصيح بأعلى صوته: يا حجّام، أو يصيح: آه ويمدّ بها صوته، فإن سمع صوته صافياً ندياً قوياً مؤدباً لا يعتريه غنّه ولا حبسة ولا ضيق نفس عرف أنه سينجب وأشار بتعليمه، وإن وجده خلاف ذلك أبعده»(60).

ويقوم بعد ذلك بمتابعة تلاميذه، واعتمدت طريقته في التعليم على مبادئ فلسفية يسهل على التلاميذ اقتباسها وتساعدهم في تليين أصواتهم وضبط حركات أفواههم، فكان يساعدهم على التغلب على العيوب الخلقية إن وجدت فيهم، بأن يأمر التلميذ أن يقعد على وساد مدور تسمى المسورة، « وأن يشد صوته إذا كان قوي الصوت، فإن كان لينا أمره أن يشد على بطنه عمامة، فإن ذلك يقوي الصوت، وإن كان ألصّ الأضراس لا يقدر أن يفتح فاه، أو كانت عادته زم أسنانه عند النطق أدخل في فيه قطعة خشب عرضها ثلاثة أصابع يبيتها في فمه ليال حتى ينفرج فكّاه»(61) ثم يعلمه بعد ذلك طريقته في الغناء، وهي أن يفتتحه بالنشيد في أول شدوه، ويأتي أثره بالبسيط ويختتمه بالمحركات والأهزاج(62).

وقد قبل فيها إضافة إلى الطلاب العرب المسلمين طلاباً من دول أوروبية عديدة مثل: فرنسا وألمانيا، وفدوا إلى قرطبة للتعلّم منه، وعادوا إلى بلادهم وقد حملوا معهم من علوم الموسيقى العربية وفنونها ما أسهم في قيام النهضة الفنية في أوروبا فيما بعد، إذ يعد زرياب أول من أدخل الموسيقى الدنيوية إلى الغرب الأوروبي، حيث اقتصرت الموسيقى قبله على الموسيقى الدينية الخاصة بطقوس الكنيسة الكاثوليكية(63). وتتلمذ على يد زرياب إضافة إلى أولاده وجواريه عدد من جواري زعماء الأندلس وبعض الأوروبيين، ومن أشهر تلاميذه: ابنه عبد الرحمن بن زرياب الذي أدار مدرسة الموسيقى بعد والده، وخلف عبد الرحمن والده في صناعته وحظوته،وتلقى من أمير الأندلس راتباً شهرياً مقداره عشرون ديناراً، لكنه كان شديد التيه والزهو والعُجب بغنائه، وجراءته على الملوك واستخفافه بالعظماء. وقل ما يسلم مجلسٌ يحضره من كدر يحدثه، وقد حضر يوما مجلس أحد العظماء، وكان صاحب قنص كلفاً ببازي له، فطلب عبد الرحمن منه أن يهبه إياه، فوهبه له استحياءً، فأرسله عبد الرحمن مع خادمه إلى بيته، فطهاه وعاد به إليه، فغضب صاحب المنزل من فعلته، وأمر بتأديبه، وضربه على هامته مائة سوط، فاستحسن الناس فعلته، وابدوا شماتتهم بعبد الرحمن بن زرياب (64)، وكان ابنه أحمد بن زرياب شاعراً (65)، ويُعد ابنه عبد الله بن زرياب أفضل إخوته صوتاً ، وأعلاهم مهارة في الغناء(66).

وابنته حمدونة التي كانت مغنية، وقد تزوجت من الوزير هشام بن عبد العزيز (ت: 273 هـ/887م) الذي جمع أخوه أسلم بن عبد العزيز أغاني زرياب في مجلد واحد عنوانه (كتاب معروف في أغاني زرياب) لعلّ ذلك تمّ بمعاونة زوجة أخيه حمدونة بنت زرياب، التي كانت متقدمة على أختها علية في صنعة الغناء، وابنته عُلية كانت مغنية، ولكنها تقل عن أختها حمدونة اتقاناً له، لكن عمرها طال بعد إخوتها، ولم يبق من أهل بيتها غيرها، وافتقر الناس إليها، وأخذوا عنها صناعة الغناء(67).

وقد علم زرياب عدداً من جواريه العزف والغناء منهن غزلان وهنيدة، اللتين كان يطارحهما العزف والغناء كلما خطر له صوت، حتى لو كان ذلك ليلاً والناس نيام(68).وجاريته متعة التي أدبها وعلمها أحسن أغانيه، وغنّت بين يدي الأمير عبد الرحمن بن الحكم، فأعجب بها وبغنائها، وكانت رائعة الجمال، فلما علم زرياب بأمرها أهداها إلى الأمير، فحظيت عنده(69).

وكانت مصابيح جارية الكاتب أبي حفص عمر بن قلهيل من تلاميذ زرياب، وكانت غاية في الحسن والنبل وطيب الصوت، وقد جذب جمال غنائها الأديب الكبير أحمد بن عبد ربه صاحب العقد الفريد، الذي مرّ بدار سيدها عشية، فاستوقفه طيب غنائها، وأراد الدنو من الباب فمنعه البوّاب. فمال إلى مسجد قرب الدار، وكتب إلى سيدها عمر بن قلهيل رقعة يسأله فيها أن يسمح له بالاستماع إلى غنائها ضمّنها أبياتا من الشعر يذكر فيها أنه يفضل مصابيح على أستاذها زرياب، وسلمها إلى البوّاب، وطلب منه أن يسلمها إلى سيده. فلما قرأها عمر بن قلهيل أدخله إلى بيته، واستضافه عنده أياماً، استمع خلالها لغناء مصابيح(70).

وقد غلبت ألحانه وأغانيه على الأندلس وتراجعت مكانة من سبقه من المغنّين، مثل علّون وزرقون، وهما أول من دخل الأندلس من المغنّين، لكن غناءهما ذهب لغلبة زرياب عليه (71) وحدث مثل ذلك لمنصور اليهودي الذي كان مبعوث الحكم بن هشام لاستدعائه إلى قرطبة (72).ويعود ذلك إلى تفوق زرياب الفني،وتشجيع الأمير عبد الرحمن له الذي طَرَحَ كل غناء سواه، وقدّمه على جميع المغنّين(73).

ويبدو أن مكانة زرياب عند أمير الأندلس عبد الرحمن بن الحكم قد جلبت عليه حسد حاشية الأمير ورجال بلاطه، وعلى رأسهم الشاعر يحيى بن الحكم الغزال (ت 250هـ/865م)**** فقد ذكر ابن دحية الكلبي أن الغزال هجا زرياباً هجاءً مقذعاً تحرّج من إيراده في كتاب المطرب، فشكاه زرياب إلى الأمير، وعرض عليه ما هجاه وقذفه به من فحش، فأمر الأمير بنفي الغزال عن الأندلس، فخرج الغزال إلى العراق والمشرق، ثم حنّ إلى وطنه، فعاد إلى الأندلس(74) ، وقد ورد في ديوان الغزال قصيدتين يعرّض فيهما بزرياب، ويهجوه، حيث اتهمه في الأولى بالرياء والخداع، وتكلّف أحوال أهل الصلاح باصطناع الخير والسكون والوقار دون أن يذكر اسمه صراحةً قال فيها:

ومراءٍ أخذ الناس بسمت وقطوب
وخشوع يشبه السقم وضعف في الدبيب
قلت هل تألم شيئاً ؟ .. قال: أثقال الذنوب
إنما تبني على الوثبة في حين الوثوب
ليس من يخفى عليه منك هذا بلبيب


وهجا الغزال زرياباً صراحة في قصيدته الثانية عندما أنزل الأمير عبد الرحمن زرياباً دار نصر الخصي، وكانت قصراً تحيط به البساتين يسمى منية، وقد قتل صاحبها نصر بالسّم الذي حاول به قتل الأمير الحكم بن هشام والد عبد الرحمن، ومفادها أن زرياباً الذي أنزله الأمير عبد الرحمن في تلك الدار لم يعتبر بما جرى لصاحبها، بل استرسل في الحياة اليومية اللاهية، مغتراً بما يصله من الأمير وغيره من ذهب وفضة، فيقول:

ذكر النّاس دار نصرٍ لزريابَ وأهل لنيلها زرياب
هكذا قدّر الإله وقد تجـري بما لا تظنه الأسباب
وأخرجوه منها إلى مسكن ليـس عليه إلا التراب حجاب
وتغانت تلك المراكب عنه وأميلت إلى سواه الركاب
وكذاك الزّمان يُحدث في تصـريفه الذّّل والبلا والخراب
لتعجبت والذي منه أعجبـت إذا ما نظرت شيء عجاب
لكأن الذي تولى الذي كان عليه مخلّد لا يُرابُ
فعله بعده كفعل امرئ ليـس عليه بعد الممات حسابُ
والعقل الفتى صحيح، ولكن حـيّرته الأوراق والأذهاب


وحسده الفقهاء والعلماء على الأموال التي يأخذها من الأمير، والتي تفوق ما يأخذونه بكثير على الرغم من مكانتهم العلمية الرفيعة، ومن أن الفقه أعلى مكانة من الغناء، وفي مقدمتهم عالم الأندلس وفقيهها في عصره عبد الملك بن حبيب السّلمي (ت: 238هـ/ 853م) الذي قال في ذلك شعراً:

صلاح أمري والذي ابتغي سهل على الرحمن في قدرته
ألف من الحمر وأقلل بها لعالم أوفى على بغيته
زرياب قد يأخذها دفعة وصنعتي أشرف من صنعته



ورفض خازن بيت المال صرف ثلاثين ألف دينار أمر بها الأمير عبد الرحمن بن الحكم لزرياب من بيت المال مكافأة له على إحدى أغانيه، وقالوا: «لا والله ما ينفُذُ هذا، و لا منا من يرضى أن يرى هذا في صحيفته غداً، أن نأخذ ثلاثين ألفاً من أموال المسلمين وندفعها إلى مغن في صوت غناء فليدفع إليه الأمير أبقاه الله ذلك مما عنده»فاحتج زرياب على ذلك قائلاً «ما هذه طاعة، فقال عبد الرحمن بن الحكم بل هذه الطاعة، صدقوا فيما قالوا، ودفعها من ماله الخاص»

وفي المقابل مدحه بعض الشعراء والكّتاب وأثنوا على علمه وخلقه وإتقانه لحرفة الغناء منهم عبد الرحمن بن الشمر، منجم الأمير عبد الرحمن:

يا علي بن نافع يا علي أنت أنت المهذّب اللوذعي
أنت في الأصل حين يسأل عنه هاشمي وفي الهوى عبشمي


كما أثنى عليه ابن القوطية فذكر أن زرياباً يحظى بمكانة مرموقة عند الأمير، وأنه أهل لها، «لأدبه وروايته وتقدمه في الصناعة التي كانت بيده»

ولم يتوقف تأثيره على الحياة الفنية في المغرب والأندلس بوفاته، بل استمر بعد ذلك بزمن طويل، قال ابن خلدون في مقدمته: «فأورث في الأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى زمان الطوائف، وطما منها بأشبيلية بحر زاخر، وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بإفريقية والمغرب»(81). وقد أسهمت الموسيقى الأندلسية في ظهور فني الزجل والموشح، اللذين يعدان من مكوناتها، وفقا لما ذكره الأستاذ عباس الجراري بأن للموسيقى الأندلسية مكونين:- الأول شعري يمثله الموشح والزجل، والثاني نغمي تمثله النوتة أو الدور، وذلك لأن أكثر الموشحات الأندلسية لا يستقيم لها وزن إلا بالموسيقى، وهذا بدوره جعل التداول والارتجال من أهم ميزات الموسيقى الأندلسية التي انتقلت إلى المغرب وأوروبا من خلال الموسيقى الشعبية التي رافقت المغنيين الجوالين.



وبعد سقوط الأندلس انتقل بعض تراث الموسيقى الأندلسية إلى المغرب العربي الذي حافظ عليه إلى يومنا هذا في إطار ما يسمى بالموسيقى الأندلسية، التي ما زالت بعض مدن المغرب تشتهر بها، مثل تطوان والرباط وفاس والنوبة في الطرب المغربي في الأصل إبداع أندلسي، وورث المجتمع الإسباني بعد سقوط الأندلس قسما من تراث الموسيقى الأندلسية، إذ حافظ عليه المورسكيون المدجّنون والمستعربون، وتناقلوه أبا عن جد ّ إلى يومنا هذا. فهناك تشابه ملحوظ بين الغناء الأندلسي في أواخر أيام الوجود العربي الإسلامي في الأندلس الذي تطغى عليه مسحة حزينة، ونوع من الغناء الفلامنكو الذي يسمّى بالغناء العميق، والذي يرى الشاعر الإسباني غرسية لوركا (1898-1984م) أنه امتداد للغناء والموسيقى العربية الأندلسية(83)، وأكد ذلك أحمد كمّون الذي ذكر أن أوتار القيثارة التي ترافق غناء الفلامنكو بعزفها الحزين الباكي أحيانا، وعزفها السريع الغاضب في أحيان أخرى، صهرت الفن العربي والعبري والغجري القديم، وأعطته طابعا غربيا بجمالية لا مثيل لها(84)، ويؤكد ذلك الدكتور أحمد بدوي الذي يذكر بأن من يسمع الموسيقى الإسبانية الأصلية والغناء المعروف باسم الفلامنكو يشعر بوجود علاقة وثيقة بينها وبين الموسيقى والغناء العربية، ويلاحظ تأثير الموسيقى العربية في الموسيقى الأوروبية أيام حكم العرب في الأندلس


وقد أثرت الموسيقى الإسبانية بدورها في نشأة الموسيقى الأوروبية الحديثة، إذ كان كثير من النبلاء والمغنّين يأتون إلى إسبانيا من البلاد الأوروبية كلها، وبخاصة فرنسا وألمانيا،فيستمعون إلى الموسيقى والأغاني العربية الأندلسية، وينقلونها عن طريق السماع إلى بلادهم، وكان ذلك سبباً في دخول الموسيقى العربية إلى أوروبا(86). وقد بيّن المستشرق الإسباني (خليان ربيرا) في إحدى دراساته أثر الموسيقى العربية في نشأة الموسيقى الأوروبية، واستدلّ على ذلك بدلائل عدة منها: ظهور مذهب فن الميزان في أوروبا في القرن الثالث عشر، وأن مؤلفات الأوروبيين فيه تشبه ما كتبه العرب في القرن التاسع في الموسيقى. واستعمال الآلات الموسيقية العربية في أوروبا، وفي مقدمتها الربابة والعود والناي والقيثارة، ورافق دخول هذه الآلات استعمال الموسيقى العربية التي كانت تعزف عليها. وظهور الموسيقى الأوروبية الشعبية التي ألفت وفقاً لفن الميزان، مثل (Rondo) و(Balades)، ولها تراكيب الزجل العربي الأندلسي نفسه الذي ظهر في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين. وقد انتشر استعمال موسيقى الزجل في كل من: ايطاليا وفرنسا وانجلترا، سواءً في أناشيد الكرنفالات أم في الأناشيد الدينية، أم في الأغاني الشعبية لشعراء (التروفير) في جنوب فرنسا، ومن الأدلة القاطعة على انتشار الموسيقى العربية في أوروبا في الفترة ما بين القرنين السادس عشر والثالث عشر الميلاديين بقاء بعض الكلمات العربية المتعلقة بالموسيقى في اللغات الأوروبية الحديثة مثل “تروبا دور” المأخوذة من كلمة (طرب ودور) الأندلسية، وكلمة (تراستي) المأخوذة من كلمة دستان العربية(87). وقد درس الموسيقى في معهد زرياب العديد من الطلاب الأوروبيين منهم جماعات (التروبادور)، الذين اشتق اسمهم من كلمتي (طرب ودور) العربيتين(88). وقد نقل هؤلاء الطلاب أسماء بعض الآلات الموسيقية بألفاظها العربية، التي بقيت في اللغات الأوروبية حتى اليوم مثل العود والربابة، وأزياء الفنانين التي ورثتها أوروبا عن الأندلس كذلك(89).


وأسهم الزواج المختلط والسبي بين المسلمين والإسبان في نقل فن الغناء والموسيقى العربية إلى أوروبا(90)، كما أسهمت البعثات التي أرسلتها بعض الدول الأوروبية للدراسة في قرطبة في نقل علم الموسيقى العربية إليها. كما حدث مع جورج الثاني ملك انجلترا الذي بعث رسالة إلى الخليفة الأموي هشام الحكم يطلب فيها منه استقبال عدد من الطلاب الإنجليز للدراسة في معاهد الأندلس «لقد سمعنا عن الرقيّ العظيم الذي تمتعت بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا اقتباس أثركم؛ لنشر نور العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة»(91).

انتقل العود من الأندلس إلى أوروبا، وشاع استعماله فيها منذ القرن الثالث عشر الميلادي حتى القرن الثامن عشر حيث أخذت آلة البيانو مكان الصدارة منه، لمناسبتها الموسيقى الأوروبية. وقد أدخل الأوروبيون تحسينات عديدة على آلة العود منها: زيادة أوتاره حتى صارت أحد عشر وترا، وألف للعود عدد مهم من الموسيقيين الأوروبيين من بينهم بتروتشي الإيطالي في البندقية، وأتينيان الفرنسي الذي نشر كتابين عن العود في النصف الثاني من القرن السادس عشر. وتميزت المدرسة الفرنسية حينذاك مع فرانسيسك وبيزار وبلاروفالي وغولتي. وجون دولاند البريطاني، واستمرت العناية بآلة العود في ألمانيا على يد: فايس وباخ وهايدن(92).

لكن الغريب حقاً أن المصادر التي أشارت إلى ذيوع شهرته، وانتشار ألحانه وأغانيه، أغفلت ذكر تاريخ وفاته. ولم يذكرها إلا ابن دحية الكلبي الذي ذكر بأن زرياب توفي في قرطبة سنة (243هـ/857م)، وقد أكد ذلك بروفنسال وقال: إن عمره عند الوفاة سبعون عاماً، دون أن يشير إلى المصادر التي استقى منها معلوماته، ويبدو أنه نقل ذلك عن ابن دحية الكلبي(93).



الخاتمــة :

ولد زرياب في بغداد وتتلمذ في مدرسة إسحق الموصلي الفنية حتى بزّ أستاذه، ولم يأت تفوقه وإبداعه عن طريق الصدفة، بل كان ثمرة موهبته وإعداده المتميز وثقافته الواسعة التي تلقاها في مدرسة الموصلي، وحرصه الدائم على تطوير فنّه وأدائه ورفع مستواه، فضلاً عن ثقته العالية بنفسه ومقدرته، وطموحه الشخصي في تحقيق الأفضل والأجمل دائماً، وتحمله المكاره في سبيل ذلك، فتنقل - باحثاً عن المجد والشهرة - بين العراق والمغرب والأندلس حيث استقر به المقام إلى أن توفي فيها.

وقد أسهمت الإدارة الأموية في الأندلس في تفجير طاقاته الإبداعية بما وفرته من رعاية واحترام وتقدير له ولأسرته، فاخترع فيها الوتر الخامس للعود (الزير الثاني)، وأسس مدرسة لتعليم الموسيقى والغناء في قرطبة، تتلمذ على يديه فيها أبناؤه وجواريه، وبعض الأندلسيين والأوروبيين. وبذلك أسهم في نشر الموسيقى الأندلسية في المغرب وأوروبا. كما أسهم أيضاً في تطوير الحياة الاجتماعية في الأندلس في الملبس والمأكل والمشرب، وبما استخدمه من أساليب جديدة في التجميل وتصفيف الشعر. وقد أثار نجاحه وحظوته عند أمراء الأندلس حسد أقرانه ومنافسيه من شعراء وفقهاء وأدباء الأندلس لدرجة دفعت بعضهم إلى هجائه. وقد استمر تأثيره في الموسيقى والغناء الأندلسي والمغربي والأوروبي بعد وفاته، وبعد سقوط الأندلس من خلال تلاميذه، وألحانه وأغانيه التي تناقلتها الأجيال.

وتوصل الباحث إلى نتائج جديدة، قد تكون غير مسبوقة، أبرزها أن رحيل زرياب عن بغداد كان في مطلع خلافة المأمون، خلافاً لما ذهب إليه الباحثون من قبل، بأن رحيله كان في خلافة الرشيد بسبب حسد أستاذه الموصلي له، وبين الباحث أن رحيله عن بغداد لم يكن بسبب حسد أستاذه له فقط، بل إن هناك أسباباً أخرى منها، تردي حالة المغنٍّين الاقتصادية في بغداد في أثناء الفتنة بين الأمين والمأمون، وخوف زرياب على نفسه من المأمون؛ لأنه كان من المقربين للأمين، هذا فضلاً عن طموحه في تحقيق المجد والشهرة والمال.

كما توصل الباحث إلى نتائج جديدة فيما يخص اختراعات زرياب الفنية، إذ بيّن أنه أدخل تحسينات على آلة العود شملت الشكل والوزن، وأدخل مواد جديدة في صناعة الأوتار أقوى وأمتن وأفضل أداء للنغم من تلك التي كانت مستعملة من قبل. وأن فكرة إضافة وتر خامس للعود كانت مطروحة قبل اختراع زرياب له، لتأدية النغمة الحادة التي لا يؤديها العود ذو الأوتار الأربعة، إلا أن أحداً لم يتمكن من اختراع ذلك الوتر، وتحديد مكانه بين أوتار العود غير زرياب.



د . هاني أبو الـرب