PDA المساعد الشخصي الرقمي

عرض كامل الموضوع : ( طلال مداح ) قيثارة العرب ، صناجة نجد ونأي الحجاز



ليل و طرب
13-08-2014, 09:51 AM
( طلال مداح ) قيثارة العرب ، صناجة نجد ونأي الحجاز

مدثر حسن


ذلك الصوت الذي تعربد فوق سهوله خيول الفرح صباحا ، بينما تعشعش على أغصان شجيراته القماري الحزينة مساءً .. وما بين الصهيل والهديل عاش حياته الابداعية الثرة قبل أن يُوَدِّع دنيانا محتضنا مزهره ، كما يموت الابطال منكفئين على بندقياتهم .. لم يكن له سلاح سوى اغنياته ومواويله ودفاتر الشعر التي هربت قصاصاتها الى قلبه في ليالي الحنين واللوعة والاشواق. وقد عاش أقرب ما يكون للفقر منه الى الغنى .. متواضعا .. قنوعا .. زاهدا ..وقد خلَّف للساحة الفنية - الشرقية بصفة عامة والخليجية بصفة خاصة - أعمالاً رائعة كثيرة سمت الى مرتبة الخلود وانطبعت على أذهان الناس وتوَّسدت رمال قلوبهم.

عرفته عن قرب في أواسط العام 1998م .. وكنت قد حددت معه موعدا لحوار طويل أجريته معه لصالح مجلة "الوسط" اللندنية .. وكانت مفاجأة لي حين صارحني بأنه لم يسمع من قبل بمجلة اسمها "الوسط" ، وارتشف جرعةً من قدح الشاي الأحمر الخفيف الذي يحبه وقد قدمه لضيافتي قبل أن يُعلِّقَ قائلاً ..(ليس لأن هذه المجلة غير معروفة .. انما لأنني بكل بساطة "أمي في الاطلاع والثقافة"..). فهو رجل مشحون بالفن من شعرة رأسه الى أخمص قدميه .. فالبروفات وبناء قوالب الالحان واجراء التمارين على آلة العود تستأثر بالكثير من وقته ، ثم ان مشغولياته العائلية - فهو زوج لثلاث من النساء له منهن الكثير من البنين والبنات – تجعله في منأى عن القراءة والاطلاع فلا عجبَ أنه كان نادراً ما يقرأ الصحفَ أو يقلِّب المجلات.



http://www8.0zz0.com/2014/08/13/06/675014770.png (http://www.0zz0.com)


كان كريماً – كعادته – في الحفاوة بي .. وقد مضى يحدثنى بعد الفراغ من اجراء الحوار عن اعجابه الشديد بالفنان السوداني (محمد وردي) ، وقد مضى يسرد بعض الذكريات التي جمعتهما معا قائلا "جمعتني مع وردي لقاءات كثيرة في اليمن حيث كنا مشاركين في بعض المناسبات ، لكن أكثر تلك اللقاءات قربا الى ذاكرتي كان في العام 1988م – على ما أذكر – وقد كنا – مجموعة من المطربين العرب – قد تلقينا الدعوة من ليبيا للمشاركة في مهرجان فني كبير .. وقد ذهبنا الى إحدى المدن الليبية على هامش فعاليات المهرجان ويبدو أنني ومحمد وردي قد تأخرنا عن اللحاق بالطائرة التي ستقلنا الى طرابلس .. وبتلقائيته دعاني للمبيت لدى أحد ابناء منطقته بالسودان (حلفا) ، وفعلا ذهبنا الى هناك .. وفوجئت بالكرم السوداني غير المتكلف والحفاوة التلقائية وخفة الدم .. وقد الهمني المجلس ليلتها شلالا من المشاعر المتوقدة.. فامسكتُ بالعود ورحت أغني أجملَ ما في ذاتي ، وكذلك فعل وردي ..


http://www8.0zz0.com/2014/08/13/06/337970955.png (http://www.0zz0.com)



وأذكر أنه قد لفت نظري لحظتها أن لمحمد وردي صوت خرافي في قوته وتطريبه .. وقد كانت تلك واحدة من ليالي العمر التي طالما تمنيت أن تتكرر مع هذا الفنان الكبير الذي لاحظت أيضا أنه ساخر وجريء حيث كانت له صولات وجولات مع العقيد الليبي معمر القذافي حينما ناقش المطربين العرب على هامش فعاليات المهرجان ..".

وطلال مداح فنان استمد مقومات فنه من البيئة حيث ترعرع في تخوم منطقة الطائف ، وهي منطقة خلابة ذات هواء عليل إذ يغسلها المطرُ في أغلب شهور السنة ، ويسرح الغيمُ على أسقف منازلها مطارداً أضواء النجيمات البعيدة ، فهي تقبع فوق قمة عالية تتراءى لمن ينظر لها من أسفل وكأنها زُمَرٌ من النجوم المضيئة في الليل البهيم. وقد ذاع صيت كثير من ابناء هذه المنطقة فنيا ومن ابرزهم وأكثرهم تأثيرا على مسيرة الاغنية في السعودية العميد طارق عبد الحكيم الذي قام بتأسيس (موسيقات الجيش) ووضع لحن السلام الملكي السعودي ، وقد تأثرت قريحة طلال مداح بمعطيات هذه البيئة ، وعليها تكونت مخرجاته الفنية والتي هي مزيج من الالحان القصيرة ، والسريعة ، والاعمال الكبيرة ، والمووايل ، والتقاسيم ، والاغنيات والاناشيد الوطنية .

وهو مشهور باجادته للعزف على آلة العود ، فلأنامله غرام تليد مع أوتار العود .. لذا عرف عنه أنه الاقدر من بين المطربين الخليجيين على استدراج الاوتار للبوح بالمشاعر العميقة .. ولو أنك أرهفت السمع الى البومه الأخير (سلطنه) لوجدت أنه اقتصر على استخدام آلة العود بمدخلين (الاول أساسي والثاني زخرفي ويتضمن مداخلات) مع مصاحبة متواترة لصوت آلة القانون . وقد شدا فيه طلال بأغنية رائعة من نظم (مشاعر عزت) يقول مطلعها:

ضايع في المحبة .. وتايه وسط غربة
يأس من الوصول .. والغربة راح تطول
ومشيت .. مشيت .. حتى تعبتْ
وُوِصِلْتْ .. وُوِصِلتَ وما وِصِلْتْ

وهي واحدة من القصائد الجيدة التي نجحت من خلالها شاعرها في تشكيل اتجاه شعري يتميز بالنزوع الى استخدام أدوات مثل "الرمزية ، المباشرة ، اللغة الشعبية" في بناء القصيدة العامية إذ خلت القصيدة من لغة (المقام العالي) حتى كأنها نزلت الى الشوارع وأخذت طابعها الخطابي من أفواه البسطاء ، وقد تكون لنا عودة في اعداد لاحقة باذن الله لتناول تجارب شعرية خليجية مماثلة وبخاصة تجربة الشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن الذي طالما أعجب به الفنان الراحل طلال مداح.

كما أن من مميزات طلال مداح أنه ملحن بارع ومن طراز نادر فما أن يتفاعل مع المضامين الشـعرية حتى تخرج الالحان الناجحة ويكون ساعتئذٍ ميلاد الاغنية . ولعل أروع ما تلمسه في صوته تلك الرخامة التي تلامس القلوب من أول وهلة ، فصوته أقرب ما يكون للجهير (طبقة التينور) مع القدرة على ايتاء الصوت الغليظ (القرار) ، كما يمتلك القدرة على تدوير الصوت في لجة الحنجرة قبل ان يخرج الى الآذان ساخرا خلابا ومؤثرا.

وقد اشتهر بأداء المواويل والقصائد الاستهلالية القصيرة التي تُقدَّم قبل (الاغنية الرئيسة) ، وطالما ساعدته على ادائها وتجويدها تلك "اللَّجَنة" التي صاحبت نطقه لحرف (الراء) حيث يُرخّمها بشكل مغاير لطريقة نطقها فتكون على لسانه اقرب لحرف (اللام).. يا ليتك تسمعه يستهل أغنية (السكوت أرحم ولا الشكوى لظالم) بالابيات العربية القديمة التي تقول

يا عجباً لمن ربيت طفلا
أُلَقِّنُهُ بأَطرَاف البنَانِ
أُعلِّمه الرمايةَ كُلَّ يومٍ
فلما اشتدَّ ساعدُه رماني
أعلمه الفتوةَ كلَّ وقتٍ
فلما طرَّ شاربُه جفاني
وكم علمته نظمَ القوافي
فلما قال قافيةً هجاني

وقد جمعت كثير من الاعمال الفنية الكبيرة طلال مداح بمشاهير الساحة الفنية في الوطن العربي ، حيث تعاون معه (الموسيقار محمد الموجي) ، والموسيقار محمد عبد الوهاب ، والموسيقار طارق عبد الحكيم .. وغيرهم .. وقد تناول بألحانه الكثير من الاعمال الشعرية لمختلف الشعراء العرب من المحيط الى الخليج. وقد ذكر لي أن كان قد أعجب بإحدى قصائد الشاعر السوري الراحل (نزار قباني) ، وأنه بالفعل قد شرع في وضع شكل تلحيني لها ، الا أنه رأى أن يستأذن أولا شاعرَها ، وقد انتهز أقرب فرصة له خلال زيارته لبريطانيا وتحدث الى (نزار) بشأن هذه القصيدة ، وفوجئ بالأخير يخبره بأن أحد المطربين السودانيين قد استأذنه سابقا لتلحين هذه القصيدة .. مما جعله يصرف النظر عن اكمال تلحينها .. الا أنه فوجئ لاحقا بأن المطرب العراقي كاظم الساهر قد لحنها وقدمها الى جمهوره.

(ثلاث ساعات) كانت عمر لقائي الاول والأخير بطلال مداح ، لمسـتُ فيها كرمَه ، وشـفافيتَه ، وتلقائيتَه .. وقد استدعى ابنتيه الصغيرتين للسلام عليّ .. وقد بدأَ على محياهما أنهما قد أخذتا من والدههما جمال أغنياته ورقة مشاعره ونداوة احساسه.

عاش طلال مداح سنوات عمره – التي ربما تنيف عن السادسة والستين – محتضنا عوده ، ومداعبا أوتاره ، ومغازلا قصائده واشعاره .. عاش موزعا لأزهار الفرح ، وقوارير العطر ، محلِّقَاً في سماوات الفن والتطريب ، حتى أنه عندما نصحه اطباؤه في ليلة وفاته بعدم الصعود الى خشبة المسرح رفض مبتسماً وكأنه يتحدى الخوف ، ومات في عمق المسافة ما بين مواويله واغنياته العذبة .. مات وسط جمهوره بعد أن صرعته الذبحة القلبية التي عانى قلبه من جرائها كثيرا في السنوات الاخيرة من حياته حيث سبق وأن أجريت له عملية جراحية في القلب خلال العام 1999م تقريبا وقد تكللت بالنجاح.

رحمه الله رحمة واسعة ، فقد فقدت الساحة الفنية العربية برحيله جناحها الى جزر الاحلام ، ومهندس مزاميرها ، وبغيابه تنكسف شمس الاغنيات الصادقة التي تدغدغ القلوب بحلاوتها ، وبغيابه ينخسف قمر المواويل الحزينة التي تتماهى في حلو الأماسي وتطير من قلب الى قلب بأجنحة فراشات الصباح.


ـــــــــــــــــــــــــــــ

لالا توحشونا .. يا ربعنا
وإن نويتوا ومشيتوا بالمحبه إذكرونا
حنا و أنتم حبايب .. أصل واحد قرايب
لا توحشونا .. لا توحشونا

--

لا توحشونا .. بالله عليكم لا توحشونا
على المحبه إجتمعنا .. قلب والله جمعنا
بالشدايد متكاتفين .. يد وحدة والله يعين
تعالي ننسى سوء التفاهم .. خلينا ننسى سبب زعلنا
تعالي نحيا أحلى أماني .. أنا و أنتي حياة تهنى

لا توحشونا