PDA المساعد الشخصي الرقمي

عرض كامل الموضوع : البادية وأضواء المدينة



ليل و طرب
10-05-2016, 12:18 PM
البادية وأضواء المدينة


المجلة العربية


http://www7.0zz0.com/2016/05/10/12/523488714.jpg (https://www.0zz0.com)




(عندما تجلس أمام المدفأة في ليالي الشتاء الباردة، وتسمع صخب المدينة وتشاهد أضواءها، وفجأة ترجع ذاكرتك لعشرات السنين، لتتذكر ليالي الأجداد وموروثات ثقافية، تشعر بالحنين إليها).

.. لكل مجتمع موروثات ثقافية أصيلة، تجعله مميزاً بطابع خاص، والمجتمع البدوي واحد من هذه المجتمعات، يحظى بموروثات ثقافية، في شتى مناحيه، أزيائه، لهجته، مأكولاته، عاداته وتقاليده، وتعكس ما في البادية من أصالة وعراقة، تشتم رائحتها حين تتذكرها مهما مرت بك السنوات، وتوالت متغيرات وتطورات العصر.

موروثات ثقافية تجول بخاطرنا منذ نعومة أظافرنا، نتذكرها ونحن جالسون في الأبراج السكنية متكررة الأدوار، جيران من كل ناحية واتجاه، نادراً ما نعرف منهم جاراً، إلا عابراً هبوطاً وصعوداً على درجات السلالم أو المصاعد الكهربائية، كل منا يلقي التحية على الآخر شبهاً بأنه جار، والحقيقة لا يعرف أو يتأكد من الشبه، أو يعرف اسماً لهذا الجار.

ننظر حولنا لنجد حياة جديدة تملؤها المصابيح والأجهزة الالكترونية المتنوعة، ما بين تلفاز وأقمار صناعية وقنوات فضائية وحاسوب وإنترنت وهواتف أرضية وخلوية، وما بها من عالم افتراضي مغاير لعالم الحقيقة، عالم سريع لا تستطيع أن تلاحقه، أو تسيطر عليه كما كان في الماضي القريب، عالم وهمي بعلاقاته وصداقاته.

ما هذا؟ وماذا حدث؟ وأين نحن؟ لقد ضاقت مساكننا وأصبحت غرفاً صغيرة مقارنة بالبيت الكبير الذي ولدنا فيه، وشهد طفولتنا وبدايات شبابنا، بيت من طوب لبن، ما أروع دفئه في برد الشتاء، وما أرق نسائمه في حر الصيف، وتغيرت لهجتنا البدوية إلى لهجات أخرى اكتسبناها من القرية والمدينة، وتغيرت الأزياء، ولم نعد نرتدي جلباباً، ولم نعد نعرف جيراناً، إلا شبهاً أنهم قد يكونوا جيران، وكذلك هم لا يعرفوننا إلا شبهاً بأننا قد نكون لهم جيران. لقد أبهرتنا أضواء المدينة وبريقها ومبانيها، وافتقدنا البادية وماضيها.

أين العصيدة التي كانت الوجبة الفاخرة، في ليالي الشتاء شديدة البرودة؟ وأين حكايات الأجداد ونحن حولها؟ العصيدة التي تمثل تراثاً بدوياً أصيلاً يقاوم الاندثار والنسيان حتى الآن، ما زلنا نراها في عيوننا، ونتذكر طعمها في خيالنا، ونشتم رائحتها في أيدينا، نتذكر الدقيق والعسل واللبن والسمن، وكيف كانت جدتنا تخلطهم على النار الهادئة لتصنع لنا عصيدة ينتظرها الصغار قبل الكبار.

نجلس حول منقد النار، بدءاً من الجد حتى الأعمام والأخوال وأولادهم، مستمتعين فرحين حين تأتينا العصيدة، نتناولها بشغف على ضوء النار كأشهى وليمة، ومصباح صغير يضاء بزيت أو جاز، فلم تكن هناك مصابيح كهربائية وقتها، وأضواء مبهرة تجعل ظلام الليل نهاراً كما الآن.

لم نكن نعرف تلفازاً أو حاسوباً ينقل لنا أخباراً، أو نشاهد تسلية، أو مباراة رياضية أو غيرها، فقط مجرد مذياع صغير في بيت كبير، يسمع منه الكبار أخبار الدنيا، أو أغنية من الطرب الأصيل، وكنا نختبئ ونسترق السمع من بعيد خشية أن يرونا أو يسمعونا، فينالنا الحرمان من سماعه.

كانت سهرتنا ليلية، ليس كليل اليوم وسهراته الصباحية، بل ليل قصير يبدأ مع غروب الشمس، وينتهي بعد العشاء والتسلية، كان الجميع يلتف حول الأجداد في سهرة ليلية، يزينها حديثهم، وسمرهم، وحكمهم وأمثالهم التراثية، السهرة التي كانت تشع دفئاً مع دفء النار، حتى تختفي برودة ليل الشتاء القارص. ما أروع سهراتهم التي عشناها، وتعلمنا منها، وما أجمل الحكم والأمثال التي أثرت في تربيتنا حتى الآن، والتي ما زالت في الأذهان.

ما زلنا نتذكر أمثال أجدادنا، وتفسيراتهم لها لنتعلم منها، كثيراً ما سمعنا (ما يرويك إلا كف إيدك)، مَثل تعلمنا منه الاعتماد على النفس، وعدم انتظار المساعدة من الآخرين، وكذلك سمعنا (ما تجيلك إلا رجل تودك)، التي تعني أنه لن يزورك ويسأل عنك إلا من يحمل المحبة والود لك، بينما لن يفكر من يحمل حقداً أو ضغينة في السؤال عنك وزيارتك.

لم تكن التكنولوجيا قد أطلت علينا بمساوئها ومميزاتها، فقد كانت العصيدة وجلستها تجمع شمل الكبار والصغار، كل منهم يسأل الآخر عن يومه، وعن أحواله، وماذا فعل في النهار. كانت جلسة مرح وتسلية، وجلسة إعداد وتربية، تنتقل فيها الموروثات الثقافية وما فيها من قيم وعادات وتقاليد أصيلة من الكبار إلى الصغار.

تسارعت الأيام، وتطور عصرنا، وغزت التكنولوجيا كل جوانب حياتنا، وأصبح كل إنسان في واد غير وادي الآخر. أصبحنا نعيش عالماً آخر غير عالمنا، دخلنا العالم الافتراضي واستقرت شبكات التواصل الاجتماعي في بيتنا، لنتواصل عن بُعد، الأب والأم والأبناء، كل منهم أصبح له عالمه الخاص.

عالم محصور بين الشاشات الإلكترونية، جعلنا نبتعد عن بعضنا البعض، نتواصل ونعرف أخبارنا وأحوالنا عبر الشاشات والشبكات السلكية واللاسلكية، واختفى عالمنا الحقيقي، اختفت العصيدة التي تجمعنا، ورحل الزمن الجميل، ولكنه سيظل محفوراً في وجداننا.

ستكون مقارنة ظالمة، بين ماض وحاضر، قد ترى أجيال اليوم أفضلية لحاضر تكنولوجي، معلوماتي، عن ماض قاس عاشه أجدادهم وآباؤهم، ولكنه سيظل حاضراً مفتقداً للنزعة الاجتماعية التي ميزت الماضي، وجعلت الأسرة والقبيلة وحدة واحدة، يعيش أفرادها في عالم واحد، عالم حقيقي، يختلف عن عالم الحاضر الافتراضي.