كان الخلفاء الأوائل يستمعون في جلساتهم الخاصة إلى قصائد الشعر، وفي عهد الأمويين، حلّ الغناء مكان الشعر، وتبارى المطربون والمطربات في إنشاده وفقا لتقاليد خاصة وصف أهل الأدب والأخبار طرقها ومذاهبها المتعددة. عرف هذا الفن انتشارا واسعا في الحجاز، وكانت له مدارسه في مكة والمدينة ووادي القرى، ومنها دخل الكوفة والشام حيث كثرت دوره ومجالسه ومنتدياته، مما ساهم في تكريس حضوره في حياة أهل الخاصة وأهل العامة على السواء.
في "العقد الفريد"، نقل ابن عبد ربه الأندلسي روايتين تشهدان لنشأة فن الغناء في مطلع العهد الأموي. تقول الأولى إن معاوية دخل على عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، "فوجده مُفيقاً وعنده جارية في حِجرها عود، فقال: ما هذا يا ابن جعفر؟ فقال: هذه جارية أرويها رقيق الشعر فتزيده حسناً بحسن نغمتها. قال: فلتقل. فحرّكت عودها وغنَّت، وكان معاوية قد خَضب:
أليس عندك شكر للتي جعلت/ ما ابيضَ من قادمات الريش كالحُمم
جدَّت منك ما قد كان أخْلَقه/ رَيب الزمان وصرف الدهر والقِدم
فحرّك معاوية رجله، فقال له ابن جعفر: لِمَ حرّكت رجلك يا أمير المؤمنين؟ قال: كلُّ كريم طَروب".
تتألف الرواية الثانية من فصلين. في الأول، "نزل معاوية المدينة ومرّ ليلة بدار ابن جعفر، فسمع عنده غناءً على أوتار، فوقف ساعة يستمع، ثم مضى وهو يقول: أستغفر الله، أستغفر الله. فلما انصرف من آخر الليل مرّ بداره أيضاً، فإذا عبد الله قائم يصلّي، فوقف ليستمع قراءته، فقال: الحمد لله، ثم نهض وهو يقول: "خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم"، فلما بلغ ابن جعفر ذلك أعدّ له طعاماً، ودعاه إلى منزله، وأحضر ابن صياد المغنّي، ثم تقدم إليه يقول: إذا رأيت معاوية واضعاً يده في الطعام فحرّك أوتارك وغنّ. فلما وضع معاوية يده في الطعام حرّك ابن صياد أوتاره وغنّى بشعر عدي بن زيد". أعجب معاوية بأداء المغنّي وراح "يضرب برجله الأرض طرباً"، فسأله مضيفه: "يا أمير المؤمنين، إنما هو مختار الشعر يركب عليه مختار الألحان، فهل ترى به بأساً؟"، فأجابه الخليفة: "لا بأس بحكمة الشعر مع حكمة الألحان". في الفصل الثاني من هذه الحكاية، زار ابن جعفر معاوية بالشام، ونزل في دار عياله، وسمعت زوجته فاختة بنت قرظة ذات ليلة غناءً عند الزائر، فغاظها ذلك، وجاءت إلى معاوية، وقالت له: "هلم فاسمع ما في منزل هذا الذي جعلته بين لحمك ودمك، وأنزلته في دار محرمك". توجه الخليفة إلى مسكن مضيفه، "فسمع شيئاً حرّكه وأطربه، وقال: والله إني لأسمع شيئاً تكاد الجبال تخرّ له، وما أظنه إلا من تلقين الجن، ثم انصرف. فما كان من آخر الليل سمع معاوية قراءة عبد الله وهو قائم يصلّي. فأنبه فاختةً، وقال لها: اسمعي مكان ما أسمعتني، هؤلاء قومي، ملوك بالنهار رهبان بالليل".


خلفاء وندماء

كان الخلفاء المسلمون يستمعون في جلساتهم الخاصة الى قراءات قصائد الشعراء، ثم بدأوا بالاستماع إليها غناءً، وكان هذا الغناء يزيدها حسنا كما جاء في رواية "العقد الفريد". شاع الغناء في العصر الأموي، وتعدّدت طبقاته ومدارسه، وانتشرت مجالسه العامة والخاصة في الحجاز والشام والعراق. في "التاج في أخلاق الملوك"، استعاد الجاحظ روايات أهل الأخبار والتاريخ في حوار يدور بينه وبين الراوي اسحق بن إبرهيم. يسأل الكاتب: "هل كانت الخلفاء من بني أمية تظهر للندماء والمغنين؟". ويخبره الراوي أن معاوية ومروان وعبد الملك والوليد وسليمان وهشام ومروان بن محمد جعلوا بينهم وبين الندماء ستارة، "وكان لا يظهر أحد من الندماء على ما يفعله الخليفة، إذا طرب للمغنّى والتذّه، حتى ينقلب ويمشي ويحرّك كتفيه، ويرقص، ويتجرد حيث لا يراه إلا خواص جواريه. إلا أنه كان، إذا ارتفع من خلف الستارة، صوت أو نعير طرب أو رقص أو حركة بزفيرٍ تجاوز المقدار، قال صاحب الستارة: حسبك يا جارية! كفّي! انتهي! أقصري! فيوهم الندماء أن الفاعل لذلك بعض الجواري. فأما الباقون من خلفاء بني أمية، فلم يكونوا يتحاشون أن يرقصوا أو يتجردوا، ويحضروا عراةً بحضرة الندماء والمغنين. وعلى ذلك، لم يكن أحد منهم في مثل حال يزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد في المجون والرفث بحضرة الندماء، والتجرد، ما يباليان ما صنعا".
بحسب شهادة الجاحظ، تميّز عمر بن عبد العزيز بابتعاده عن جلسات الغناء "منذ أفضت الخلافة إليه إلى أن فارق الدنيا. فأما قبلها، وهو أمير المدينة، فكان يسمع الغناء، ولا يظهر منه إلا الأمر الجميل. وكان ربما صفّق بيديه، وربما تمرّغ على فراشه، وضرب برجليه وطرب. فأما أن يخرج عن مقدار السرور إلى السخف، فلا". في المقابل، كان يزيد بن عبد الملك أوّل من "سوّى بين الطبقة العليا والسفلى، وأفسد أقسام المراتب"، "وهو أول من شُتم في وجهه من الخلفاء، على جهة الهزل والسخف".


طبقات المغنين


في موسوعة "الأغاني"، سجّل أبو الفرج الاصفهاني جلسات الغناء والطرب في البلاط الأموي، واستفاض في نقل أخبار مشاهير أهله. تشهد هذه الروايات لانتشار الغناء وازدهاره في الحجاز، ورواده أربعة: "مكيّان ومدنيان، فالمكيّان: ابن سريج وابن محرز، والمدنيان: معبد ومالك". "كان ابن سريج أول من غنّى الغناء المتقن بالحجاز بعد طويسٍ، وكان مولده في خلافة عمر بن الخطاب، وأدرك يزيد بن عبد الملك وناح عليه، ومات في خلافة هشام". قيل في وصفه: "ما خلق الله تعالى بعد داود النبي عليه الصلاة والسلام أحسن صوتاً من ابن سريج، ولا صاغ الله عزّ وجلّ أحداً أحذق منه بالغناء"، "كأنه خلق من كل قلبٍ، فهو يغنّي لكل إنسانٍ ما يشتهي". عُرف بأسلوبه في النياحة، وقد بعثت إليه سكينة بنت الحسين بشعر يقول:
"يا أرض ويحك أكرمي أمواتي/ فلقد ظفرت بسادتي وحماتي"، وأمرته بأن يصوغ فيه لحناً يُناح به، ففعل، وأجاد في غنائه، "فقدّمه ذلك عند أهل الحرمين على جميع ناحة مكة والمدينة والطائف". مثل ابن سريج، لمع ابن محرز في الغناء، غير أنه لم يحظ بشهرة كبيرة بسبب انصرافه عن الناس. كان أبوه من سدنة الكعبة، وأصله من الفرس، "شخص إلى فارس فتعلّم ألحان الفرس وأخذ غناءهم، ثم صار إلى الشام فتعلّم ألحان الروم وأخذ غناءهم، فأسقط من ذلك ما لا يستحسن من نغم الفريقين، وأخذ محاسنها فمزج بعضها ببعض وألّف منها الأغاني التي صنعها في أشعار العرب، فأتى بما لم يُسمع مثله، وكان يقال له صناج العرب". ابتدع الإيقاع المسمّى بالرمل، وابتكر الغناء بزوج من الشعر، "واقتدى به المغنّون في ذلك". في المدينة، برز معبد بن وهب، ووُصف بـ"فحل المغنين". والده من الزنوج الموالي. "غنّى في أول دولة بني أمية"، و"مات في أيام الوليد بن يزيد بدمشق وهو عنده. وقد قيل: إنه أصابه الفالج قبل موته وارتعش وبطل صوته". نُقل عنه قوله: "كنت غلاماً مملوكاً لآل قطن مولى بني مخزوم، وكنت أتلقى الغنم بظهر الحرة، وكانوا تجاراً أعالج لهم التجارة في ذلك، فآتي صخرةً بالحرة ملقاةً بالليل فأستند إليها، فأسمع وأنا نائم صوتاً يجري في مسامعي، فأقوم من النوم فأحكيه، فهذا كان مبدأ غنائي". قيل له: "كيف تصنع إذا أردت أن تصوغ الغناء؟"، فأجاب: "أرتحل قعودي وأوقع بالقضيب على رحلي وأترنم عليه بالشعر حتى يستوي لي الصوت". إلى جانب معبد، برز مالك بن أبي السمح، وهو تلميذه. غنّى في حضرة يزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد، وعاش حتى أدرك دولة بني العباس.
لم يقتصر الغناء على الرجال في الحجاز. ينقل الأصفهاني أخبار الكثير من المغنيات اللواتي ذاع صيتهن في زمن الأمويين، ومنهن جميلة، سلامة القس، وحبابة. "كانت جميلة أعلم خلق الله بالغناء، وكان معبد يقول: أصل الغناء جميلة وفرعه نحن، ولولا جميلة لم نكن نحن مغنين". عرفت شهرة واسعة في المدينة حيث تحول منزلها إلى ناد يقصده كبار المغنين والعازفين والشعراء. تتلمذ على يدها الكثير من المغنين والمغنيات، ومنهن سلامة، وهي "مولدة من مولدات المدينة وبها نشأت". "سمّيت سلامة القس لأن رجلاً يُعرف بعبد الرحمن بن أبي عمار الجشمي من قراء أهل مكة، وكان يلقب بالقس لعبادته، شغف بها وشهر، فغلب عليها لقبه. واشتراها يزيد بن عبد الملك في خلافة سليمان، وعاشت بعده". مثل سلامة، أخذت حبابة الغناء عن جميلة، غير أنها لم تبرع فيه مثلها. نقل المدائني عن جرير: "كانتا حاذقتين ظريفتين ضاربتين وكانت سلامة أحسنهما غناءً، وحبابة أحسنهما وجهاً، وكانت سلامة تقول الشعر، وكانت حبابة تتعاطاه فلا تحسن". ارتبط اسم حبابة باسم يزيد بن عبد الملك الذي هام بها حتى الوله، واستعاد الرواة قصة عشق الخليفة لجاريته حينا بشكل مطوّل، وحيناً بشكل مختصر. في الرواية التي نقلها صاحب "مصارع العشاق"، تبارت سلامة وحبابة في الغناء للخليفة، "فطرب يزيد وشق حلة كانت عليه حتى سقطت في الأرض، ثم قال: أفتأذنان لي في أن أطير؟ قالت له حبابة: على من تدع الأمة؟ قال: عليك". عشق أمير المؤمنين جاريته الحسناء، واختلى بها في يوم من الأيام، ورمى إليها حبة رمان، "وهي تضحك، فوقعت في فيها فشرقت فماتت، فأقامت عنده في البيت حتى جيفت، أو كادت تجيف، ثم خرج فدفنها"، وزار قبرها بعد أيام ووقف عليه ورثاها شعراً، "ثم رجع فما خرج من منزله حتى خرج بنعشه".


خلوة القصور

كما في الحجاز، انتشر الغناء في الكوفة حيث افتتحت دور خاصة يقصدها الناس للاستماع إلى المغنين والمغنيات، منها الدار التي افتتحها الحجازي ابن رامين، فكان من يسمع الغناء ويشرب النبيذ يأتونه ويقيمون عنده. فيه قال إسماعيل بن عمار:
اية حال يا ابن رامين/ حال المحبين المساكين
تركتهم موتى وما موتوا/ قد جرعوا منك الأمرين
في الشام، ظهر عدد من مشاهير الغناء، منهم أبو كامل الغزيل: "كان محسنا وطيبا مضحكاً"، غنّى في قصر الوليد بن يزيد وأطربه، فخلع الخليفة عليه قلنسيّته المذهّبة، "فكان أبو كامل يصونها ولا يلبسها إلا من عيد إلى عيد ويمسحها بكمّه ويرفعها ويبكي ويقول: إنما أرفعها لأني أجد منها ريح سيدي". يتردد صدى هذه الجلسات بين أطلال القصور التي شيّدها حكام بني أمية وزيّنوها بالصور والنقوش والتماثيل. في بادية الشام، على بعد ثلاثين كيلومترا غرب تدمر، كشف المنقبون عن بعض الرسوم والنقوش في موقع يُعرف بقصر الحير الغربي، ويُنسب إلى هشام بن عبد الملك. على لوح كبير من هذا القصر، يظهر عازف يلعب على عوده أمام عازف ينفخ في ما يُشبه الناي. تتكرر صور العازفين في القصر الذي يُعرف باسم "قصير عمرة" في بادية الأردن، وهو منتجع ملكي شُيّد في عهد الوليد بن عبد الملك، باني جامع دمشق. تشكل هذه الصور مادة غنية توازي في أهميتها التوثيقية ما نقله أهل الأدب والشعر والتاريخ في وصف مجالس الغناء في زمن قمة ازدهار الدولة الأموية.



الدكتور: محمود الزيباوي
استاذ علم التاريخ
جامعة سوربون الفرنسيه