بسم الله الرحمن الرحيم

--

هانحن هنا .. لازلنا نتذاكر طلال حتى هذه اللحظة .. لانستطيع الإبتعاد عنه .. ولازال يجذبنا ونقترب ونقترب حتى أجل غير معلوم .. بل نزداد إيماناً في كل ساعة بأنه من الصعب إقتلاع هوى ذلك المداح بسهولة ونهرب من لطافة صوته .. صورته ستظل عالقة بالأذهان .. وصوته يتردد على الأعماق بكل إستحسان .. فسبحان من خلقه بكامل الإتقان!

العطر

لازال يستوقفني ألبوم "العطر" من بين الجميع .. لا لـ شيء متعلق بفترة زمنية مميزة من حياتي .. ولكن لأنه فعلاً فريد ونادر ويملك شيئاً لايمتلكه الأخرون
الألبوم كان نذيراً بأن الموسيقى وصلت ذروتها .. مُنتهاها .. إلى الأخير الفاني .. لابعده شيء يُذكر .. فقط بعض المزيّفين يتصاعقون كالعادة .. أو شيخ قديم تعبّث بتاريخه العظيم!
وفعلاً .. تحققت النبوءة .. فـ لم تقوم للغناء قائمة .. وكأنه كان يوم نحره .. ولا بكاء ينفع ولاشكوى تفيد!
أظلم علينا الليل .. بقينا ننتظر الصباح ومكذبين للرواية المُنذرة .. ولكم الله .. لم يأتي الصباح حتى الآن !
فـ أي غناء تسمونه بعد طلال ؟ وأي صعلوك سيتعالى ويدّعي بأنه لامس سماء طلال ؟ المسألة إستحالة .. والأمر بعيد جداً !
فلم يبني طلال صرحاً كي تطوله عين أيّاً كان .. هُو المعادلة الصعبة .. والحلقة الأقوى في سلسلة العُظماء!

إجتماع الثلاثي من جديد


هذا الألبوم كان " البِكر " بعد توقف دام 11 سنة من الظاهرة الموسيقية سراج عمر وقبل التوقف كان آخر البوم هو ( ياكريم ) , والذي إجتمع فيه طلال و سراج عمر مع بدر بن عبدالمحسن في أربع أغاني من أصل خمسة بالألبوم وهي ( ياكريم وَ لك الله وَ " العظيمة " ليلكم شمس وَ الإختيار ) بينما بقيت الأخيرة " نهر الخلود " من كلمات سعود شربتلي وألحان صاحبنا طلال ... هذا الألبوم ترك في الأذهان إستحسان وإعجاب كبير ... وإنتظر الناس حتى يعود سراج وتجتمع القوة الضاربة من جديد بلا رحمة مُسطرة أسمى الملاحم الغنائية الخالدة العطرية !
وسبحان الله! .. تشعر بأن ألبوم العطر كان مُقدّراً لهُ بأن تجتمع معه كوامل الموسيقى .. فلم يبشرنا بطلال وسراج فقط .. بل جمع أعذب الكلمات من أعظم صانعي الكلمات!
وكانت النهاية مع كل شيء .. حتى موزع الموسيقى وضع ختمه المحفور!

أغاني الألبوم

الألبوم يحتوي على 8 أغاني خالدات :
1. العطر
2. تذكر
3. شعاع
4. حلم أيامي
5. أبي ليل
6. أبي منك العذر
7. بإختصار
8. المشاعر

كلمات الألبوم

مهندس الكلمة وبدر القصيدة تكفّل بزوج من أغاني الألبوم وهما ( العطر ) وَ ( شعاع ) وكالعادة " مُبهر" .. وأما الراحل محمد العبدالله الفيصل -رحمه الله- أخرج لنا ثلاثاً من أعظم القصائد الغنائية على الإطلاق وكانت ( أبي ليل ) وَ ( أبي منك العذر ) وَ ( بإختصار ) ... بينما الأمير بدر بن محمد بن عبدالعزيز كانت له اليتيمة ( تذكر) ويالها من كلمات .. و" حلم أيامي " المميزة جداً جداً من قلم " ضياء خوجة " وأخيراً بقيت الأغنية اللذيذة ( المشاعر ) من كلمات الأديب والشاعر العملاق محمد الفريح

خلف الكواليس

الإشراف الفني كان من حبيبنا سراج .. وصولوهات مصطفى عبدالنبي وأما صولو العود ( المميز جداً ) كان من حسين صابر.. بينما الإيقاعات كانت من نصيب راضي درويش .. ومن الأشياء المُلفتة للنظر في الألبوم هو الناي والذي كان لـ الدكتور رضا بدير

من هو رضا بدير ؟

هو عازف الناي المصري رضا بدير الحائز على الدكتوراة في الموسيقى وبرسالة كان عنوانها" الة الناي ونشاة الموسيقى وتطورها – للمؤلفان رضا بدير وياسر الشافعي 2004 القاهرة " .. رضا بدير نشأ في عائلة علمية وكان أبوه كيميائياً لكن رضا تولّع بالموسيقى والناي خاصة منذ الصغر .. رضا تأثر بـ سيد سالم " عازف الناي الشهر مع الست أم كلثوم " و عازف الناي الفريد محمود عفت الذي إشتهر بتقاسيمه الجبّارة على الناي والتي أُصدرت لها ألبومات لاقت رواجاً كثيراً .. لكن رضا تأثر بشكل خاص بـ الراحل سيد أبوشفه رحمه الله أستاذ الناي الكبير والذي كان يجمع بين العزف على الناي والكولة والتي كانت لها بصمة واضحة على الدكتور رضا ..
الدكتور رضا بدير كان عازفاً للناي مع أشهر فرقة في القرن الماضي وهي الفرقة الذهبية بقيادة الموسيقار الغني عن التعريف " صلاح عرام " عام 76 .. ثم إلتحق بـ الفرقة الماسية بقيادة أحمد فؤاد حسن " رفيق درب محمد عبده والذي قاد الكثير من حفلاته
" .. وكان لـ الدكتور رضا تعاوانات كثيرة مع أشقاءه العرب والسعوديين ولعلنا نذكر عزفه في رائعة محمد عبده " صوتك يناديني "


لماذا العطر؟

هرم الغناء ذو الأركان الثلاثة ما إجتمع إلا وأبدع .. ومن الواضح جداً أن طلال وبدر وسراج كانوا يؤمنون ويثقون في أن مايخرج من تحت أيديهم هو شيء عجيب فريد رهيب .. فلذلك لاغرابة في إجتماعهم الكثير والدائم ... ولا نهضم حق الشعراء الآخرين .. فـ ربما يتبدّل ركن البدر بـ محمد العبدالله الفيصل ولازال الإبداع موجود كما رأينا في مقادير و أغراب ولا وعد وكلمني عن الهوى ونام الطريق وغيرها من إبداع هذا الثلاثي .. لكن أعتقد أن طلال وسراج ثابتين على جمالهم .. سراج يعرف ويفهم طلال جيّداً .. ودائماً رائعين لأن عبقرية هذين الإثنين إذا إجتمعت ستكون محل إنبهار وإندهاش بلا شك .. وسيظل سراج أعظم ملحّن سعودي بلا جدال .. ولا يدخل طلال في المقارنة هنا بحكم أنه مغني في المقام الأول


طلال والألحان


عندما نتحّدث عن إجتماع سراج وطلال مع شاعر آخر ... هنا نرى دور طلال يقتصر على الغناء فقط .. فهل هذا ينتقص من حق طلال ؟
لا!
طلال أغانيه مع غيره عندما لاتكون من ألحانه فلا يصنعها مثلاً سراج أو سامي إحسان ... أو تصنع الأغنية كلمات بدر بن عبدالمحسن أو محمد العبدالله أو غيرهم .. . فإن العمل هنا جماعي ولايُنسب لشخص واحد فقط . .. وطلال كما الجميع يعرف بأنه كان ملحّن عظيم جداً وصنع لنفسه مئات الموسيقى الساحرة التي كانت موضع إعجاز خرافي .. وطلال سيظل الرقم 1 والأصعب والأكمل .. ورؤيته يكتفي في أغاني كثيرة بالغناء فقط هذا لاينفي أنه ربما شارك في اللحن .. لكن طلال هنا لايسقط من الصورة .. فدائماً ماتجده في هكذا مواضع يُنزل علينا قدرات صوتية آخذه للأنفاس .. فإن طلال هنا ركّز جهوده على الغناء فقط .. فكيف لو رأينا العكس مع طلال وكرّس جهوده في التلحين فقط مثل سراج ؟ كان رأينا العجب والعُجاب ... وإذا لحّن لنفسه لابد أنه يعطي جزءاً من جهده لغناءه .. وإن عدنا لقدرات طلال التلحينيه بشكل عام ... فكم رأينا من ألحان قدمها طلال لمغنين آخرين وعندما غنوها تستطيع تمييز لحنها الرائع لكن للأسف المغني لايعطيها حقها ..
الحديث عن ألحان طلال يطول ويطول .. لكن طلال ليس موهبة فقط .. طلال موهبة وعبقرية .. فربما تجد فنانين آخرين لديهم الموهبة بوضوح لكن بلا إبداع .. وهنا طلال يُظهر قدرته على فعل أي شيء .. طلال يمتلك الموهبة على الغناء والتلحين والإبداع فيهما بإبداع منقطع النظير .. فلذلك كان لابد من إجتماع قدرة طلال وإبداع سراج مع أي مغني كان أن تخرج لنا أعظم الأعمال الفنية على مر العصور

وماذا بعد العطر؟

كانت هذي ماقبل نهاية المسيرة بين سراج وبدر وطلال .. حتى خرج لنا في النهاية وحيدة فريدة وهي " أحبابك سروا " من ألبوم أسبوع .. ( ربما سُجلت قبل العطر ولكنها أصدرت رسمياً بعد العطر ) ولانحتاج أن نذكر مدى روعتها مهما كان ... وهنا كانت نهاية كل شيء!
سراج ترك التلحين إلى وقتنا الحاضر ولانعلم متى عودته ( وربما لن يعود على الأرجح ) والبدر أكمل مسيرته مع أشباه الملحنين والمغنين .. بينما طلال فارقنا إلى جنات النعيم بإذن الله .. لكي نهيم في الظلام بلا " سراج " يُنير لنا أو " بدر " يضيء لنا في ظلمات الليالي .. ونقف على الأطلال ونرثي " طلال " بكل أنين وشوق ونفتش في تراثه الغابر العريق .. نمجّد صوته وإحساسه .. لانمّل ولانكل من مديحه وتناقل معجازته الغنائية .. طلال ذلك المناضل والثائر على الفساد الغنائي والذوق الهابط .. ولازال يقاتل حتى آخر رمق من حياته .. ولكن لم يستلم رايته بعد موته أحد .. ورأينا الجميع يتعبّث بالغناء وحتى وصل بأنهم يتعبثّون بأغاني طلال نفسها ... والشكوى لله آخراً

طلال آخر ؟

المهزلة يا أحبتي تتجلّى بشكل واضح في حديث أحدهم عن أن فلاناً هو " خليفة طلال " ... طلال يجب أن نُسلّم يقيناً بأنه واحد ولن يتكرر مهما حصل .. لكن يجب أن نضيف على ذلك مسألة الركود الفني العربي بشكل عام وظهور من يزعم بأنهم فنانين وهم أبعد مايكون عن ذلك .. وترى تعويض الفشل الغنائي بشكل واضح في إستخدام العنصر النسائي بشكل مقزز وتركيز الأضواء على شكل المغني في محاولة فاشلة في تشتيت التركيز على الأغنية المتهالكة التي يقدمها .. ورأينا مراراً وتكراراً من يغني أغاني ذات كلمات غريبة من أجل لفت الإنتباه .. أو ألحان غريبة مشوهّة .. ظهور التأثيرات والمحسنات الصوتية بشكل واضح مما يجعل بروز قدرات المغني صعبة .. وكم سمعنا من مئات التسجيلات لطلال ومن كانوا في زمنه يغنون في الجلسات والحفلات بالمايكرفون فقط بدون أي مؤثرات ولافلاتر موسيقية تغير من أصواتهم .. وهنا تتبيّن القدرة الصوتية الهائلة .. وأعتقد هذا عامل من بين عشرات العوامل التي أدّت إلى الركود الفني ولكن أهمها هو تغيير هوية الغناء العربي والتخلّي عن الخصائص الموسيقية القديمة وإستبدالها بموسيقى دخيلة أو ليس لها أصل موسيقي أصلاً .. ونستنتج في الأخير بأننا يجب أن نتظر مئة سنة حتى يظهر من يستطيع أن نُطلق عليه لقب " فنان " .. فكيف بمن يأتي الآن ويقول " فلان هو خليفة طلال " ؟


وداعاً

وداعاً طلال .. وداعاً سراج .. محمد عبده " القديم " .. طارق عبدالحكيم .. فوزي محسون .. محمد العبدلله .. عبدالله الفيصل .. وداعاً للجميع بلا إستثناء .. وكل من كان يُقدم لنا موسيقى سالبة للعقول .. وكلمات عذبة عميقة المعنى ..
والوداع الأول والأخير هو لطلال .. ذلك العبقري الداهية الذي كان يأتي بما لم ياتي به الأولون ولن يأتي به الآخرون .. كيف ننساك وننسى روائعك الخالدة ؟
المسألة معقدة نوعاً ما .. فبعد كل فترة زمنية يجب أن تظهر طفرة .. وطلال كان طفرة فوق الجميع .. كان نهاية حلم كل فنان .. فبعد أن تضع عرش طلال أمام ناظريك .. يجب أن تسأل نفسك " وماذا بعد طلال ؟ " .. نهاية فارغة .. وعدم ممدود .. طلال لا بعده ولا قبله ولاسواه!
طلال رائع كما هو .. بلا إضافة ولانقصان .. بلا تقديس ولا نُكران
وعلى ما يبدو أنه تركنا وحيدين بلاتعويض .. وتركنا على أمل ظهور أحداً يوماً ما .. لكي نعرف من هو حق المعرفة .. " ومشواري ياقلبي طويل" .. لن يظهر أحد بالتأكيد .. وحسبي الله ونعم الوكيل