يوسف عزت يكتب : ليس رثاء لنور الشريف لكنه رثاء لجيل بأكمله
" نور الشريف مات"، جائتني تلك الكلمات المرعبه عبر أثير الهاتف، لعدة ثواني ظننت أن أختي تمازحني، و قلت لها" مات قبل كده كتير"، و لكنها أكدت أنها واثقه من مصدرها خصوصا و أنها تعمل بأحد الصحف القوميه المرموقه، و ذكرت لي أنه توفي عن عمر يناهز ال٦٩.
أنهيت معها المكالمه مرتبكا، أشعر بغصه في حلقي و حزن شديد يعتري روحي و قتامه تملأ قلبي، ها هو رمز أخر من رموز طفولتي و شبابي يرحل، مذكرا إياي كم أنا كبرت، و من كانوا كبارا قبلي يرحلون و أنا أكبر.
بالتأكيد نور الشريف قيمه فنيه كبيره، ساهم بتكوين وعي الملايين ليس فقط من المصريين و لكن من العرب، فنان مثقف و موهوب أمتلك الرؤيه و الادوات ليملأ قلوبنا قبل عقولنا بفن راقي خالد لن ينسي أبدا من ذاكرة الثقافه العربيه و المصريه، من ينسي حسن في سواق الاتوبيس، أو ناجي العلي، أو الشاب الصعيدي خفيف الظل الكابتن شحاته أبو كف، أو ابن رشد في المصير، و الحاج متولي و عبد الغفور البرعي، حقا كان نور الشريف صاحب الالف وجه، فمع كل دور له كنت أنسى كل أدواره الاخرى و أذوب في الشخصيه التي أشاهدها.
رحم الله نور الشريف، و لكني لست ناقدا فنيا لأكتب محللا أفلامه، و لا أكتب رثاء له، و لكن أكتب رثاء لي و لجيل كبر فاجأه، لجيل سيحمل راية الكبار قريبا شاء أم أبي.
عندما أخبرت أخي الصغير صاحب العشرون ربيعا، أن النور الشريف توفي عن عمر يناهز ال٦٩ ، قال لي " ياه ده مات كبير أوي"، لم تسعفني الكلمات لأناقشه فكنت أراه مات صغيرا، فتركته بإبتسامه باهته و عيون زائغه، مفكرا منذ متي و أنا أري أن عمر ال٦٩ ليس كبيرا.
أذكر أن منذ عدة أعوام، رفضت صداقة شاب في منتصف الثلاثينات من عمره لأنه علي حد تعبيري وقتها " ده راجل عجوز"، و هاهي أعوام ليست بالكثيره مرت، و أصبحت أنا في عمر هذا العجوز.
لم أفهم لماذا غضبت عندما سمعت أبن جارنا الذي لم يتعدي طوله بعد المتر، و هو يقول لصديقه معلقا علي موت نور الشريف،" نور الشريف مات و هو عنده ٦٩ سنه، ده عاش كتير كفايه عليه كده"، كيف تغيرت مشاعري إتجاه العمر و معني الكبر، و كيف لم أشعر بهذا التغيير من قبل.
كان لي صديق يغضب بشده، عندما نذكر أمامه أن فلان عبر عتبة الخمسون و أصبح " كبير أوي و قرب يموت"، لم أفهم قط ماذا يغضبه في هذا الكلام و خصوصا أن عمره مثل عمري، سألته يوما ماذا يغضبك هكذا يا صديقي، أجابني دامعا أن أبيه قد تخطي عتبة الخمسين منذ أعوام، و هو لا يريد أن يموت والده و يتركه، يومها بكيت معه، و لم أقل علي أي إنسان بعدها أبدا" كبر و قرب يموت".
كنت أشاهد مع زوجتي مسرحية " العيال كبرت"، و في أحد الفصول التي كانت تجمع كل أبطال المسرحيه، وجدت زوجتي تقول " إحنا كبرنا ولا أيه، كلهم ماتوا"، لم أستطع إكمال المسرحيه و هربت من مراره أعتصرت قلبي إلي النوم.
" زهقنا من كلمة جيلكم أحسن من جيلنا، كل جيل و ليه حلاوته، و لا أنتم جيلكم أحسن من جيلنا، و لا جيلنا أحسن من جيلكم، أنت بس كنتم صغيريين فكنتم بتحسوا أن الدنيا أحلي"، جمله شهيره كنت دائما ألقيها علي مسامع والدي و أعمامي عندما كانوا يتنهدون بحسره و يقولون" دانتو مظلومين، أيامنا كانت أحلي"، و تمر الايام لأجد نفسي أقول لأخي الصغير" دانتم جيل مظلوم، جيلنا كان أحسن حظا"، شعرت بعدها أنني حقا لا أعرف شيئا عن حقائق الحياه.
و يبدو أن تلك ليس أزمتي الشخصيه، بل هي أزمة جيل كامل، يمثل الجزء الاكبر من الكتله السكانيه في مصر، و يبدو أن أزمتنا جليه للجميع، و الدليل علي ذلك أن جميع شركات الدعايه تصنع أغلب دعايتها مبنيه علي النوستلجيا أو الحنين الي الماضي.
لا أدري لماذا أثار في نفسي موت نور الشريف كل تلك المشاعر، هل لأني كبرت و أصبحت أعي جيدا كيف يمر العمر و يتسرب من بين يد الانسان بسرعه فائقه، هل لأن أصبح لي ولدين أخشي علي نفسي من الموت من أجلهما، أم هل لأن أبي و أمي (أطال الله في عمرهما) قد قاربا علي الستين من العمر؟؟.
رحم الله نور الشريف، و غفر الله له إثارة كل هذا الشجون بداخلي.
وداعا نورالشريف، لن ننساك أبداً.....