تجاوز غير مبرر بحق قائد عظيم مثل (صلاح الدين الأيوبي) لا يعوزه الإنصاف والتقدير ، لأن أعداءه قد أنصفوه وقدّروه قبل أصدقائه ، وشهادات مؤرخي الغرب من مختلف الأجيال والجنسيات برهان على ذلك ..
والباحث (يوسف زيدان) يلوم صلاح الدين دون أن يستوضح عذره أو يضعه في ظروفه ويحاسبه بمقاييس عصره ، فقد جاء صلاح الدين في ظل احتلال واستيطان صليبي وممالك للفرنجة تخيّم على الشرق العربي ، وفي سياق دولة فاطمية تتداعي وتلفظ أنفاسها الأخيرة ، وعلى أمل قيام دولة جديدة ناهضة تضم مصر والشام والحجاز وتطوق الصليبيين وتجاهد لتحرير الأرض واستردادها .. وكل مؤسسي الدول تفرض عليهم الظروف تصرفات تختلف عن الأحوال العادية التي يسودها الأمن والرخاء ، فماذا فعل (أبو جعفر المنصور) الذي نقض عهود الأمان ليزيد بن هبيرة والي بني أمية على العراق ولأبي مسلم الخراساني وعمه عبدالله بن علي الذين قامت الدولة العباسية على اكتافهم ؟؟! أليس ذلك تطبيقا لمبدأ ميكافيلي القائل : على الأمير أن لا يلتزم بكل العهود التي أبرمها مع خصومه في حال الضعف ؟؟ وماذا فعل الملك عبدالعزيز بزعماء الإخوان ( فيصل الدويش وسلطان بن بجاد) وزعماء القبائل الذين اختلفوا معه ؟؟!
أما فيلم (الناصر صلاح الدين) بطولة أحمد مظهر وإخراج عزالدين ذو الفقار ثم يوسف شاهين عام 1963م فهو ليس من الإنتاج الحكومي المصري بل من إنتاج الفنانة والمنتجة اللبنانية آسيا داغر والذي تسبب في إفلاسها تقريبا ورهن ممتلكاتها وعمارتها وأثاث بيتها ولم يعد عليها بأي أرباح تغطي التكاليف الكبيرة لإنتاجه ، ولكن ملاحظة (يوسف زيدان) سليمة لأن صلاح الدين في هذا الفيلم ليس قصة بطولة من الماضي بل رمز يستوحى للحاضر ومشكلاته .. فهنا (صلاح الدين الأيوبي) هو "سلطان العرب" و"منقذ العروبة" و"محرر فلسطين" حتى تعود الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ويرجع اللاجئون المشردون إلى ديارهم ، وكان تركيز الفيلم قويا على مبدأ "الوحدة الوطنية" حتى أن صلاح الدين الأيوبي أو بالأصح الفنان أحمد مظهر يقول بالحرف " الدين لله والوطن للجميع" وهو شعار ثورة 1919م وكأنه عضو في الاتحاد الاشتراكي العربي !! ، بالإضافة إلى تسليط الضوء على شخصية "عيسى العوام" المسيحي العربي المقاوم للفرنجة الغزاة والمحتلين مع صلاح الدين الأيوبي المسلم للتدليل على الوحدة الوطنية ، رغم أن عيسى العوام هذا مسلم في الحقيقة !!
فلا معنى للوقوف أمام الأخطاء التاريخية أو المغالطات ومحاولة دحضها وكشف وجه الصواب فيها ، لأن ذلك عمل فني يستوحي الرمز التاريخي ويستلهمه لمعارك الحاضر وقضاياه ومشاغله واهتماماته ( الوحدة الوطنية ,, تحرير فلسطين .. وحدة مصر وسوريا .. القومية العربية .. والعلمانية أيضا ..) تلك المفردات التي يعبر عنها هذا الفيلم ، وتلك هي رسالة فيلم الناصر صلاح الدين ( ولاحظ وصف "الناصر" للإشارة أيضا إلى الزعيم الحاضر جمال عبدالناصر) ، بالضبط كما كانت رسالة فيلم "المصير" هي الدفاع عن حرية الفكر ضد التكفير بغض النظر عن الدقة التاريخية التي وقف عندها النقاد السطحيون ..
ورغم عظمة القائد المسلم (صلاح الدين الأيوبي) وبطولته التي لايختلف عليها منصف لكن يؤخذ عليه أنه محافظ الفكر ، وإن كان بعض الباحثين يبرر ذلك بأنه أمر متوقع أن تسود السلفية والمحافظة الفكرية والعسكرية الإقطاعية في أوقات الخطر والتهديد الوجودي للأمة ، وتسود العقلانية والليبرالية في أوقات القوة والرخاء وهيمنة الطبقات البورجوازية المستنيرة .. ولكن في كل الأحوال لا أتقبل مصير (السهروردي المقتول) ذلك الفيلسوف الصوفي الذي مات صبرا على يد صلاح الدين بمبررات واهية لا تبيح سفك دمه أو مصير مكتبة "دار الحكمة" الفاطمية التي أتلفت محتوياتها وأبيدت نفائسها وضاعت بيد المسلمين ولأسباب طائفية وليس بيد المغول للأسف الشديد !!