المسائل الخلافية موجودة ولا ينكرها أحد
البعض يرى أن الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم الوارد في صحيح البخاري رحمه الله ((خالفوا المشركين ، احفوا الشوارب وأوفوا اللحى)) وبالرواية الأخرى الواردة في صحيح مسلم رحمه الله ((جزوا الشوارب وأرخوا اللحى ، خالفوا المجوس)) وبغيرها من الروايات المتعددة في هذا الصدد هو أمر للوجوب (كما يراه الحنابلة وبعض المالكية وبعض الأحناف) والبعض الآخر يراه أمرا للاستحباب (كما يرى الشافعية) وأنه سُنّة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا أكثر
وحتى من يقول بوجوب إعفاء اللحى بينهم خلاف .. هل يعفيها بالمطلق ولا يأخذ منها أبدا وهو قول بعض الذين يردّون الحديث الذي رواه الترمذي في سننه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها) ويذهب أصحاب هذا القول إلى أنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته في الأخذ من اللحية شيء قط !
والفريق الآخر يرى أن يأخذ منها ويهذبها كما ورد عن جمع من الصحابة رضوان الله عليهم كعلي ابن أبي طالب وعبد الله بن العباس وعبد الله بن عمر (وابن عمر بالذات ورد عنه برواية الإمام البخاري رحمه الله) أنهم قالوا فيما معناه أن "لحية المؤمن قبضة" !
وهذا يعني أن ما زاد على القبضة (عند بعض القائلين بوجوب إعفاء اللحى) جائز أن يؤخذ منه !
ومن العجائب في بعض الأقوال أن بعض المالكية الذين يقولون بوجوب إعفاء اللحى استثنوا أن تطول طولا يتسبب به شهرته بها فيجب عليه حينها الأخذ منها !
وذهب آخرون إلى أن من أنكر وجوب إعفاء اللحى فهو منكر لواجب أوجبه الله عز وجل على المسلم وبالتالي فهو خارج من الملة .. !!
وفي نفس الحديث الأساسي وفي نفس المسألة الأمر بـ "جز" الشوارب .. هل هو بالكُلّية أم بالتخفيف أم أنه أمر للاستحباب؟
وقد روى الإمام مالك رحمه الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا غضب أو أهمّه الأمر "فَتَل" شاربه .. وهذا يعني أنه رضي الله عنه كان شاربه طويلا وله سابلة !
فإذا كان عمر رضي الله عنه طويل كذلك .. فلماذا لم ينكر عليه الصحابة رضوان الله عليهم إن كان فعله مخالفا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم؟
وهل يُعقل أن عمر رضي الله عنه يغيب عنه مثل هذا الأمر إن كان حراما مطلقا كما يقول القائلون؟
فإذا كانت الخلافات في مثل هذه المسألة العادية جدا فما بالكم في المسائل الأخرى؟
في كل مسألة خلافية .. تقع تحتها مسائل خلافية أكبر وأكبر .. وكما ذكرت سابقا عدة مرات .. لا توجد مسألة فقهية أو عقدية في ديننا إلا وفيها خلافٌ معتبر !
حتى الشهادة نفسها .. وأعني هنا "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" هل هي كافية لدخول الجنة أم لا .. وهنالك الحديث المشهور عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كل سجل مثل مد البصر ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب .. فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب .. فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول احضر وزنك .. فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم .. قال فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة فلا يثقل مع اسم الله شيء ))
والحديث الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبدالله وابن أمَته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء))
بل إن البعض ذهب إلى أن الشهادة بواحدانية الله عز وجل فقط هي كافية لدخول الجنة ودليلهم المشهور حديث أبي ذر رضي الله عنه في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (("ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة" قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق" قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق" ثلاثا ثم قال في الرابعة "على رغم أنف أبي ذر" قال فخرج أبو ذر وهو يقول وإن رغم أنف أبي ذر))
وفي حديث الشفاعة الطويل في آخره يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله
والحديث الآخر عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة، ولا صياماً، ولا حجاً، ولا عمرة، إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة يقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون: "لا إله إلا الله")). فقيل لحذيفة بن اليمان: ما تغني عنهم (لا إله إلا الله)؟ فقال: "تنجيهم من النار")
خلاصة الكلام ..
لا تعتقد أبدا أنك على صواب مطلق .. فما من شخص إلا ويخطئ ويصيب ..
ومن كان لا ينطق عن الهوى قد التحق بالرفيق الأعلى فصلى الله عليه وسلم !
وفي كل الأقوال خلاف .. فلا تظنن أنك ناجٍ وحدك ومن سار على نهجك فقط ..
إن الله عز وجل أرحم بعباده من أن يطردهم خارج رحمته بسبب اختلاف أقوال العلماء ..
إن الله عز وجل كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم))
فانظر .. ماذا في قلبك؟
هل أردتَ طاعة الله عز وجل؟
أم أردت أن يقول الناس عنك أنك ملتزم بشرع الله؟
أم أردت انتصارا لرأيك دون الأخذ في الاعتبار صوابه من عدمه؟
أيا ما كان في قلبك .. فإن الله عز وجل يعلمه ..
فانظر .. ماذا في قلبك .. وأحسن ما بينك وبين ربك .. ولا يهمنّك كلام الناس .. !