لأول مرة

نص رسائل الزعيم جمال عبدالناصر إلى فريد الأطرش

الشرق





(١٥ يناير) كان موعد مع الاحتفاء بذكرى ميلاد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، ليحتفل عشاق «ملك العود» ودراويش «الزعيم» خلال أسبوعين باثنين أثريا السياسة والفن فى مصر والوطن العربى بالكثير. ويأتى تقارب الذكريين، وكأن المقادير شاءت أن يكون «القرب» بين مطرب العروبة وزعيمها فى الحياة والممات، خاصة أن علاقتهما معًا تكشف عن وجه جديد لم يألفه كثيرون عن «الأطرش»، متعلق بالسياسة.



عِشق سامية جمال له أشعل غيرة فاروق منه وقربه لـ«دولة يوليو»


لا تستطيع أن تمنع نفسك من الدهشة وأنت تعيد القراءة والتأمل والاكتشاف فى سيرة هذا الفنان العظيم، الذى كان حالة استثنائية فى تاريخ الغناء العربى غير قابلة للتقليد، ومدرسة شامخة هو أستاذها الوحيد وتلميذها الفريد.

كانت حياته دراما مكتملة الأركان، شديدة الإثارة والتقلبات والمتناقضات، فيها الفقر المدقع والبذخ الكامل، الفشل المزرى والنجاح الباهر، الفن مرافقًا للسياسة.

والحق أن الوجه السياسى لفريد الأطرش من الجوانب التى لم تأخذ نصيبها من البحث، فى ظل طغيان الجانب الفنى، الذى حالت أضواؤه الساطعة دون الالتفات إلى تلك التجربة الثرية التى عاشها إلى جوار قمة السلطة فى العالم العربى، صديقًا للرؤساء والملوك، والملكات أيضًا.


ويأتى فى صدارة تجربة «فريد» السياسية، علاقته الوثيقة بالرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ورغم أنى إلى حد قريب كنت أظن أن عبدالحليم حافظ هو المطرب الأقرب لـ«ناصر»، بحكم أنه كان صوتًا لثورة يوليو وزعيمها ومعاركها، إلا أن ما حصلت عليه من وثائق وسمعته من وقائع يؤكد أن «الأطرش» كان الأقرب إلى قلب عبدالناصر.

وعندما قامت ثورة يوليو، كان «فريد» ضلعًا فى المثلث الذهبى للغناء المصرى مع «أم كلثوم» و«عبدالوهاب»، ليمثل الثلاثة فرسان الرهان ونجوم الشباك.


«عبدالوهاب» و«أم كلثوم» وجدا نفسيهما بعد «يوليو ٥٢» فى موقف لا يحسدان عليه، بعد أن جرى منع أغنياتهما من الإذاعة، لشك القيادة السياسية فى ولائهما للثورة الجديدة التى أزاحت الملك وأسرته العلوية، خاصة أن الجميع كان يعرف علاقتهما بالملك، فقد غنى «عبدالوهاب» فى مديح «فاروق»، ونالت منه أم كلثوم «نيشان الكمال».


أما «فريد» فكان هو الناجى الوحيد من هذا المثلث، لأن الجميع كان يعرف كراهية الملك فاروق له، بعدما تبين لملك مصر والسودان أن راقصة القصر «سامية جمال» فضلته عليه وتجاهر بمحبته وتسعى جاهدة للارتباط به.


كما اكتشف الملك فاروق أن زوجته الشابة جلالة الملكة ناريمان متيمة بـ«أمير العود»، وتتتبع أخباره وأفلامه وأغانيه بلهفة، وهو العشق الذى جاهرت به بعد طلاقها من «فاروق» وعودتها لمصر، وكادت تتزوجه لولا أن والدتها اعترضت ولم تقبل أن ترتبط ملكة مصر بـ«مشخصاتى» (وثّق فريد قصته مع ناريمان وفاروق فى فيلم «قصة حبى» الذى كتب قصته بنفسه، كما تشير تترات الفيلم واختار لبطولته النجمة السمراء إيمان التى تزوجت من شقيقه فؤاد فيما بعد لمجرد أن تبقى إلى جوار فريد).


كان الملك لا يُطيق «فريد»، ويراه شخصًا غير مرغوب فيه، ويود لو تخلص منه، وحكت سامية جمال عدة مرات أن الملك عندما كان يتلقى اعتذارها عن عدم تقديم فقرة لأحد ضيوفه، فإنه كان يهددها بـ«فريد» على اعتبار أنه نقطة ضعفها، وينذرها بإمكانية أن يقتله، فكانت تأتى صاغرة.

ونكاية فى الملك، قررت حكومة «الوفد» - على سبيل المكايدة السياسية- أن تمنح فريد الأطرش الجنسية المصرية فى ١٥ يونيه ١٩٥١، وبتوقيع وزير الداخلية القطب الوفدى فؤاد سراج الدين.

المهم أن ثورة يوليو جاءت «نجدة» لـ«فريد الأطرش»، لذا كان من أشد المتحمسين لها، ومن أوائل المتغنين بها، وفى ٢٧ سبتمبر ١٩٥٢ أذيعت لأول مرة أغنيته فى مديح حركة الجيش وتأييد ثورته:

يا شباب آن الأوان وانتهينا من الهوان
يوم ما جيشنا صان بلادنا أحلى أيام الزمان
والنهارده مصر لينا مش لخاين أو جبان


وهى الأغنية التى قُدمت فى الاحتفال الذى نظمته وزارة الشباب مؤخرًا بحضور الرئيس عبدالفتاح السيسى، وكانت بمثابة إعادة اكتشاف للأغنية ورد اعتبار لصاحبها بعد أن جرى «ركنها» فى الأدراج لسنوات طويلة.



خطاب من «الزعيم» لـ«ملك العود»: شكرًا على تبرعكم للمجهود الحربى بـ200 جنيه

لم يكتفِ «فريد» بإعلان ولائه لثورة يوليو بالغناء، وإنما قرر أن يتبرع من ماله الخاص لدعمها، ليس مرة بل مرات، وفى كل مرة كان يتلقى خطاب شكر من قائد الثورة جمال عبدالناصر، الذى كان من المتيمين بصوت «فريد» وأغانيه، قبل الثورة وبعدها. وتعددت رسائل الشكر من «عبدالناصر» إلى فريد، وأولاها يعود تاريخها إلى فبراير ١٩٥٥، أرسلها «عبدالناصر» بوصفه رئيس مجلس الوزراء، ليشكر فيها الموسيقار فريد الأطرش على الجهود الإنسانية والمادية التى بذلها لإغاثة منكوبى السيول التى ضربت آنذاك محافظة قنا وشردت الآلاف الذين كانوا فى حاجة إلى إعانات عاجلة. وجاء فى نص الخطاب الموقع بإمضاء «البكباشى أركان حرب جمال عبدالناصر»: «الأستاذ فريد الأطرش.. خالص تمنياتى وعظيم تقديرى لعطفكم على منكوبى السيول فى قنا، ومساهمتكم فى إغاثتهم من محنتهم بتبرعكم بمبلغ ١٢٠ جنيهًا.. فباسم الإنسانية أشكر لكم عاطفتكم النبيلة نحو إخواننا ومواطنينا».


الخطاب الثانى حمل توقيع مكتب الرئيس، بعد إطاحة «عبدالناصر» بالرئيس محمد نجيب، وتملكه من مقاليد السلطة، جامعًا بين منصبى الرئيس ورئاسة مجلس الوزراء، وهو مؤرخ بـ٨ فبراير ١٩٥٦ فى أعقاب زيارة أجراها «فريد» إلى مكتب الرئيس الذى استقبله شخصيًا، وقدم خلالها الموسيقار تبرعًا بـ٢٠٠ جنيه مخصصة للمجهود الحربى وتسليح الجيش. وفى اليوم نفسه الذى زار فيه «فريد» مكتب الرئيس أجرى الموسيقار محمد عبدالوهاب زيارة مماثلة وتبرع بمبلغ ٤٠٠ جنيه للغرض نفسه، وكان عبدالوهاب وقتها يحاول بشتى الطرق أن يثبت ولاءه للثورة وأن ينفى عن نفسه «تهمة » الانتماء للعهد البائد، لكن كانت أغنيته فى حب الملك فاروق لا تزال ترن فى الأذهان.


وجاء فى نص هذه الرسالة: «السيد فريد الأطرش تفضلتم فقدمتم مبلغ ٢٠٠ جنيه مساهمة منكم فى تسليح الجيش لاستكمال وسائل الدفاع عن الوطن المفدى، فتقبلوا خالص شكرى على نبل مشاعركم وصادق وطنيتكم»، مذيلة بتوقيع «عبدالناصر» بصفته رئيسًا لمجلس الوزراء.


وتعمقت علاقة «الزعيم» و«الموسيقار» وتوطدت إلى الحد الذى جعل «فريد» يُقدم على طلب من «عبدالناصر» لم يجرؤ عليه أحد قبله ولا بعده، والمدهش أن الأخير استجاب له ببساطة ووافق بلا تحفظ.


هنا نعود إلى رفض «أصيلة هانم» والدة الملكة ناريمان علاقة ابنتها بمطرب مهما بلغ من شهرة، خاصة أنها كانت ملكة مصر وزوجة ملكها وأم ولى عهده، وأعلنت الأم رأيها جهارًا، فأحس «فريد» بالإهانة. لم يحتمل قلب «فريد» الألم والجرح، فأصيب بذبحة صدرية حادة ألزمته الفراش ومنعته من حضور العرض الخاص لفيلمه الجديد «عهد الهوى» وسط الجماهير فى حفلة الساعة التاسعة، حسب تقاليد تلك الأيام. اتصل به مدير سينما «ديانا» يبلغه أن الجماهير يمكن أن تكسر الصالة إن لم يحضر العرض الخاص، وهنا لمعت الفكرة العجيبة فى عقل «فريد»، وطلب من شقيقه «فؤاد» أن يحضر ورقة وقلمًا ويكتب برقية عاجلة إلى الرئيس عبدالناصر.. وأملى عليه نصها:

«سيدى الرئيس.. لقد عودت جمهورى أن أحضر معه حفل افتتاح أفلامى ولكننى الآن مصاب بذبحة صدرية وظروفى الصحية تمنعنى من الذهاب إلى دار العرض ولذلك كلى أمل أن تشرفوا الفيلم بالحضور».

حكى لى فيصل الأطرش عن رد فعل والده «فؤاد» آنذاك بعدما سمع ذلك الطلب: «أصيب بحالة من الذعر واتهم فريد بالجنون واعتبر الخطاب بمثابة (خطرفة مرض)، وأنه ليس على المريض حرج»، مضيفًا: «لكن عمى فريد أصر على إرسال الخطاب والاطمئنان على وصوله إلى يد الرئيس عبدالناصر». وتابع: «لم يصدق نفسه عندما شاهد عبدالناصر ينزل من السيارة ويعانقه (فؤاد) فى مودة ويأخذه من يده ويتجه به إلى أحد البناوير لمشاهدة الفيلم».

لم يكتفِ «عبدالناصر» بهذا الكرم، بل إنه عقب العرض اصطحب يوسف وهبى -أحد أبطال الفيلم- لزيارة «فريد» فى منزله والاطمئنان على حالته الصحية.

موقف الرئيس أسر «فريد» وأثر فيه، فقرر رد الجميل فورًا لصاحبه، وأعلن عن تبرعه بإيرادات الفيلم لمدة شهر من عرضه لصالح المجهود الحربى، وبمجرد أن استرد صحته ذهب وسلم شيكًا بالمبلغ للرئيس.







الرئاسة تنصر فريد على العندليب فى «معركة عيد الربيع»


ينبهنى الفنان عادل السيد، رئيس جمعية «محبى فريد الأطرش»، الحارس الأمين على تراثه، إلى أن علاقة «عبدالناصر» و«فريد» كانت تجسيدًا لفكرة العروبة، أحد أبرز أهداف ثورة يوليو وقائدها.

ولتوضيح هذه الفكرة، فإن «عبدالناصر» كان يرى فى فريد «مطرب العروبة»، وفيه تتحقق الفكرة وتعطى نموذجها الساطع، وكان «فريد» يرى فى الرئيس «زعيم العروبة» وبطلها الشعبى الملهم، وذلك فى علاقة كانت أكبر وأعمق من مجرد صداقة بين مطرب ورئيس.

وقدم عادل السيد وقائع يراها دالة وكاشفة تؤكد صدق نظريته، أولاها موقف «عبدالناصر» من «معركة عيد الربيع» بين «فريد» و«عبدالحليم».. ولتلك المعركة قصة. كان «فريد» أول من اخترع حفلة «عيد الربيع»، فبعد النجاح الباهر لأغنيته «الربيع» التى قدمها فى فيلمه «عفريتة هانم»، عوّد جمهوره على حفل سنوى يقيمه فى شم النسيم، وأصبحت حفلة «عيد الربيع» تقليدًا سنويًا لا يخلفه مع جمهوره منذ ١٩٥٠.


لكن أزمة صحية أجبرته على السفر خارج مصر بعد نكسة ١٩٦٧، ولما عاد فى ١٩٧٠ كان «عبدالحليم» قد «استولى» على المناسبة، وأصبح هو نجم «حفل الربيع». ظن «فريد» أن «حليم» سيترك له المناسبة التى اخترعها وارتبطت باسمه، لكنه أعلن عن حفل سيحييه فى شم النسيم .. فما العمل فى تلك الورطة؟

الحل كان تقديم «فريد» أغنية واحدة جديدة، اختارها وطنية يعبر بها عن محبته لمصر واشتياقه لها طوال فترة غيابه عنها، فكانت «سنة وسنتين» التى رأى أن يفتتح بها الحفل وكأنها شكر خاص منه لمصر ولرئيسها الذى قرر أن يكرمه بمجرد عودته إليها فمنحه وسام الاستحقاق فى ٢٤ مارس ١٩٧٠، وقبل أن يبدأ فريد أغنيته فى الحفل وجه شكرًا مباشرًا لـ«ناصر» على وسامه الذى طوق به عنقه.


واختار «فريد» أن ينهى الحفل برائعته الخالدة «الربيع»، وبينهما قرر أن يقدم ١٠ مطربين ومطربات يغنون من ألحانه، فغنى رشدى «عشرية»، وغنى فهد بلان «ما أقدرش على كده»، وغنت شهرزاد «ادينى معاد وقابلنى»، وغنى عادل مأمون «انت واحشنى قوى يا حبيبى».

لم تعد هناك مشكلة إذن عند «فريد» فى برنامج حفلته، لكن المشكلة أصبحت لدى وزير الإعلام يومها عبدالقادر حاتم، وتتمثل فى أى الحفلين تنقله شاشة التليفزيون ومحطات الراديو.. حفل فريد أم حفل حليم؟


ولم يجد «حاتم» أمامه سوى «عبدالناصر» ليبت فى هذه المعضلة، وكان قرار الرئيس حاسمًا وبلا تردد: «ينقل التليفزيون والراديو حفل فريد على الهواء.. وتخصص محطة من محطات الإذاعة لنقل حفل حليم على الهواء، على أن يسجل التليفزيون حفله ويذيعه فى اليوم التالى».. وهكذا انحاز «زعيم العروبة» لـ«مطرب العروبة».