تابع
..
وفي كل دربونة أو رأس عقد (زقاق) وقف ابو طبل يضرب بطبله. ووراءه وحوله جوقة من الصبيان وبأيدي بعضهم الفوانيس ، يتصايحون و'الحوتة' لاتسمعهم ولاتأبه لصياحهم، أما العجائز في تلك الليلة المشؤومة التي ابتلعت فيها الحوتة قمر بغداد, فقد اجتمعن فوق السطوح رافعات الأيدي بالدعاء وبصوت واحد:
ياقريب الفرج!!
ياعالي بلا درج!!
قمرنا طايح أبشدة
نطلب منك الفرج!
وعلى ضفاف دجلة (من أمسناية باب المعظم الى أمسناية سبع ابكار بهذا الصوب) و(من أمسناية الجعيفر الى أمسناية الكرادة بذاك الصوب) وقفت النسوة المرضعات والزوجات الحبالى والزوجات (المجبوسات، اللي مايحبلن ويجيبن) والخائفات من أن يتزوج عليهن أزواجهن، وقفن صفوفا على ضفاف دجلة التي راح القمر يغيب عنها شيئا فشيئا، بعضهن يمسك بخيوط قصيرة تتدلى منها كرات من طين، والبعض الآخر يمسك خيوطا تتدلى منها خرزتان بيضاويتان من (خرز در نجف ـ الخرز اللي تطرد العين)، والجميع يعتقدون أنه حينما يصبح القمر في بطن الحوتة يتحول لون الخرز الى اللون الأزرق الغامق، وهي في هذه الحالة تنفع الجنين في الرحم، والرضيع في المهد، وتقي من شر 'الجبسة'!!.
أما الطفل الجنين والرضيع في تلك الليلة فيجب ان يسير به 'البلم' في الشط مع أمه مسافة (سبع جساريات) واذا لم يكن هنالك جسر مطروح على جساريات في بغداد فإن على الأمهات أن يعمدن الى غسل مالديهن من ذهب (قلادة او سوار أو حجل) في الماء ورش الماء على رأس الطفل.
وبالطبع لم يكن في بغداد أنذاك غير جسرين وعدة 'جسارات'، والناس ضائعون في الخرافات، ولهذا (بلعت الحوتة القمر)! وأبتلعت معه (ملا جاسم بن محمد) ، وبقي الناس في تلك الليلة المشؤومة يعزفون بالقدور والصواني والجفاجير والقروانات لعل الحوتة 'تهد' القمر وتهرب منهم, واشتد صياحهم وعلت اصوات موسيقى القدور والصواني اكثر فأكثر!
الحوتة زاعت القمر!!
وبعد ثلاث ساعات ونصف الساعة، وحوالي الساعة الحادية عشرة وعشرين دقيقة في تلك الليلة ، طلع القمر من جديد، فتصايح البغداديون من فوق السطوح وأعالي المنائر والفوانيس واللمبات والشموع بايديهم:
زاعته الحوتة!!.. الحوتة زاعت القمر!! خافت وزاعته!
وعلت الهلاهل. وتبادل البعض التهاني من فوق السطوح، لأن الحوتة داخت و'انسطرت' من شدة أصوات القدور والجفاجير والصواني، فزاعت أي (تقيأت) القمر وهربت خائفة من فزعة البغداديين.
وتنفست بغداد الصعداء، وتداعى الشعراء في المقاهي ينشدون مايمكن انشاده في ذم الحوتة و'اللي جاب الحوتة'. وفي صباح يوم الثلاثاء صدرت احدى الصحف وفي صفحتها الأولى قصيدة لشاعر العراق الشعبي ملا عبود الكرخي ينوه فيها بما فعلته 'الحوتة المنحوتة' ويغمز فيها الى 'الحوتة البريطانية' التي ابتلعت العراق آنذاك عام 1916م.
وفي مقهى (عرب) في باب المعظم تحدث عرب (وهو صاحب المقهى وشخصية بغدادية شهيرة بادعاء البطولات التي تضفي على شخصيته المهابة وهي عبارة عن قصص مختلقة من صنع خياله قال للجالسين متباهيا:
'بأنه لولا هو ولولا خوف الحوتة منه لما 'زاعت' القمر وهربت، فلقد صعد إليها في ليلة البارحة بعد ان تمكن من صعود منارة جامع الامام الأعظم وقفز نحوها، وحالما رأته زاعت القمر وهربت'.
أما كيف وقع القمر في 'حلق الحوتة' فقد شاعت انذاك نظريتان:
الأولى: روج لها أهالي محلة (قنبر علي) فقالوا: 'ان القمر كان جاي لمحبوبته يريد يلتقي وياها، لكنه خطية تاه وظل طريقه في الجول والصحراء وبين الجبال، وكانت الملعونة الحوتة خاتلتله أهناك فكمشته وبلعته'.
الثانية: فقد تحدث بها في بادئ الأمر أهل محلة الفضل فقالوا:'إن الحاجة عمشة أم ستوري شاهدت القمر في تلك الليلة جاي يشرب ماي من الشط، خطية عطشان، واول ما دنج على الشط حتى ياخذله قمع ماي شافته الحوتة وجرته لها وبلعته، وقامت الحاجة عمشة أتصيح لكن محد سمعها لأن بذيج الليلة نص بغداد سكارى شاربين عرق هبهب'.
أما أهل محلة 'باب الأغا' فهم على خلاف مذهبي مع المحلات المجاورة. لهذا فسروا الأسباب برواية أخرى تقول: 'إن القمر كان بالأساس في تلك الليلة 'اعور' وأنه في تلك الليلة أيضا لم يكن حاملا 'عظم الهدهد' لكي يحميه كعادته من الشر، لهذا حينما خرج للطريق لم ير 'الحوتة' التي كانت تتربص به من جهة عينه 'العورة' فمسكته وابتلعته'.
ومرت تلك الليلة بسلام، وبأقاويل وحكايات كثيرة استمرت ثلاثة اشهر. ولكن ظل البغداديون كما كانوا دائما على أهبة الاستعداد بقدورهم وجفاجيرهم وصحونهم وصوانيهم وقنادرهم ومكاويرهم للطرق عليها من فوق السطوح ليخيفوا الحوتة التي تبتلع القمر بين حين وآخر. وهم يرددون
(ياحوتة يامنحوتة.. هد قمرنا العالي.. وأن كان متهدينة.. أندق لج ابصينية.. طاق طيق طاق طيق, طيق طاق )