بأثر رجعي حزين


أكتب إليك، في غيابك الطويل المرهق. أكتب إليك، على سبيل الأمل البائد، أتخبط في غياهب جب الضياع، أترنح على حافة الجنون المقتحِم. أكتب كي أضع علامة أسف خائرة على طريق الندم الشائك. أكتب للذكرى. أكتب كي أواجه الخوف اللاهث خلفي، كي أتوارى في جملة فقدت إيقاعها، أتخبأ في كلمة مضى أوانها. أكتب كي أتدثر بالسطور. أتشبث بالنور، بوهم النور. أحاول مزاحمة الظلام المتكدس بذكرى لامعة أو أثر مهجور، أو طلل شاهد على ناس وعلى نور، على فجر، على إيقاع فرح أبدي الأثر. ألمس الجدران، أضع يد الشوق على بصمات الذكرى، أُحيي الاحتفاء بالمواعيد الأولى، أحاكي التفاصيل، أنصت لصدى أغنية عائد من زمن الحنين. أحرك شفتي على وقع كلماتك الرنانة. كغريقٍ يصارع الماء بلا هدى، يضرب في كل الجهات، يفشي خوفه، يفضح هزيمته، يجاهر بوحدته، وهو يدرك إدراك الغرق له منذ زمنٍ بعيد. يعود من الموت المؤكد، يحاول عبثًا أن يلفت انتباه الأحياء، بعد أن فشل في بحثه بين الموتى. نفيٌ فظيع ألا يراك الأموات وألا يشعر بك الأحياء! ومتاهةٌ مرهقة حين يهتز اليقين وتختلط عليك الظلال والشخوص، حين يطوّقك الشك: هل أنت في زمن الصدى أم في زمن الصوت أو تاهت بك الخُطى بين عصرين، بين عمرين، بين ندمين!

هذا إيقاعٌ تائه، لرجلٍ مهزوم. إيقاعٌ لامرأةٍ من حبق، بهي الخضرة، ضائع الرائحة الجريئة. امرأة ربيعية في موسمٍ متقلب الأحوال، متعكر المزاج، حاد الصفاقة. أنثى تجيد، بالفطرة، إبطاء الزمن، الشعور باللحظة الحقيقية في وقتها، دون النظر لجدلية هل الإنسان "يعي" اللحظة في وقتها أم بعد حدوثها. أنثى تهب تجربة القدرة على مسايرة سرعة الضوء، دون لهاث، ودون خديعة. أنثى لا تجعله أسعد رجل في الدنيا، لا تجعل منه شاعرًا حالما، ولكنه معها ينسى أن هناك غد، أن هناك لحظة آتية. أنثى تلغي فكرة الزمن، فكرة الوقت، فكرة العمر، فكرة ماذا بعد. امرأة تجعل من القدرة على التوقف عن التفكير شيء بديهي، شيء لا يدخل حتى ضمن الممكنات. امرأة عادية تهب رجلها العادي حياة عادية. حياة تكمن قيمتها في انتفاء التطلُع، في نسيان الزمن، في بداهة الاكتفاء دون التفكير في الأمر أو السعي من أجل تحقيقه. هكذا ببساطة كان إيقاعا مستقرا لرجل محظوظ. لم تكن أنثى عادية قط، إنه يفرط في الكذب، يبالغ في تبسيط الحقيقة. يمرر نفسه الوهم، من منطلَق أن الأشياء البسيطة ترجع ببساطة!

"الذكريات صدى السنين الحاكي". يتجول في حدائق الرسائل القديمة وجوادِّها. يعود يافعا. يقرأ مفرداته، صياغته، ولادته، ضياعه، عثوره عليه. يضحك، يتفاجأ، ينبهر، يحزن، يندم على صمت، على مفردة، يتحمس لبيت شعر ارتجله. ينتشي لسرعة بديهة أحدثت مفعولًا سحريا. ينسى الزمن. يخرج من الوقت. تتلبسه روح الرسائل القديمة. يتفاعل وفقًا لزمنها وتجربتها وليس لزمنه الحالي وعثو العمر فيه. يتفاعل، ينفعل، يتمرد على حزنه ووقاره، يدب فيه النزق، تسري فيه النشوة. ينتهي من القراءة دون الشعور بمرور الوقت. يصيبه الحزن حين يدرك عودته للآتي. يدرك رحلته، بأثر رجعي، بين الظلال! ظل التفاعل، ظل الانفعال، ظل التمرد، ظل النزق، ظل النشوة.. ظله هو. فتعود له الشكوك في تحديد الحقيقة والظل. هل ما يعيشه الآن هو حقيقته أم مجرد ظل باهت لحياة حقيقية مضت يستطيع اختبارها مجددًا ومرارًا وتكرارًا من خلال الرسائل، من خلال الذكريات، من خلال الأطلال والشواهد التي تعضد اليقين وتُلاشي الظنون!

قد تكون الكتابة الارتجالية المتحررة سافرة، متعرجة، منحدرة..، ولكنها كتابة الرجل التائه، الرجل المهزوم، الرجل الذي وجد صوته المفقود في رسائله القديمة.