مرحبا .
لطالما وأنا أشاهد برامج الطبيعة وخاصة في ناشيونال جيوغرافيك ، لطالما حيرني تعليق معدي البرامج حول تطور الحيوان الذي يكون عنه البرنامج ، فكثيرا ما يقولون أن هذا الحيوان طور نفسه ليلائم هذه البيئة ، أو أن هذه السمكة طورت وسائل الدفاع لديها ، والزرافة والتمساح وهكذا !!
الحقيقة أن عقلي لم يستطع أن يتقبل فكرة أن حيوان ما ينقصه أمر في بيئته فيتطور هكذا .
ربما ساعد على هذا أننا تعلمنا النظرية في المدارس على أنها نظرية غير صحيحة .
على العموم قرأت حديثا مقالا رائعا للكاتب تركي الجاسر حول
هذه النظرية أحببت أن أشارككم به ، وهو طويل لكنه ممتع .
الداروينية من نظرية إلى منهج وثقافة وعقيدة
الفكرة البسيطة والمدرسة الشاملة
يعتقد الكثير من المسلمين أن نظرية داروين ليست إلا افتراضا مثيرا للجدل، ولا يتعدى ميدان نقاشه أروقة المختصين في علوم الأحياء. وهذا الافتراض ناشئ من كثرة ما يسمعون من الكتاب المسلمين عن خطأ النظرية وما يقرأون من نقولات عن علماء الأحياء المعارضين لها.
لكن الحقيقة أن النظرية -رغم أنها لم تثبت ولا يمكن إثباتها- صارت منطلقا لعلم الأحياء الحديث، وتحولت إلى المدرسة الرئيسية في تناول أصل الكائنات الحية وتنوعها ووجودها. وتغلغل مفهوم التطور في ثقافة علم الأحياء، ولم يعد مطروحا للنقاش بشكل مستقل، بل فرض نفسه ليكون منهجا يبنى على أساسه كل النتائج الثانوية في فهم علم الأحياء.(١)
هل نظرية داروين علم أم عقيدة؟
جاءت نظرية داروين في خضم القفزات العلمية في القرن التاسع عشر، فكانت من ضمن سياق تغليب "العلم" المنطقي التجريبي القابل للإثبات على الاعتقادات الدينية. لكن المفارقة انها تحولت بذاتها إلى عقيدة مسلمة تستغني عن التجربة والإثبات، ويتحاشى علماء الأحياء المؤمنون بها تداول الأسئلة التلقائية التي تدحضها تماما، مثلما يتحاشى الهندوسي نقاش خرافات الهندوسية. أما إذا تورط الدارويني ودخل في نقاش حول الأسئلة الحساسة فيها فإنه يناقشها على طريقة النصارى في إثبات عقيدة التثليث.
وسبب هذا التحول في نظرية داروين من فكرة لم تثبت إلى مدرسة ومنهج، أن داروين ظهر مع صعود العلمانية التي كانت تبحث عن أي مخرج لتفسير الحياة بديلا عن الدين. (٢) وجاءت فكرة داروين بكل جاذبيتها ليتلقفها العلمانيون باحتفاء واحتفال، وتنتشر كما لو كانت اختراعا يشفي كل الأمراض ويزيل كل المشاكل. ولذلك، فرغم تشدد العلماء في منهجية العلم الحديث، بعدم ترك فراغات في أي افتراض علمي دون تشكيك فيه، فإنهم تقبلوا نظرية داروين بعُجرها وبُجرها التي لا يمكن ترقيعها.
وفي مقارنة بسيطة مع نظريات الفيزياء يقبل العلماء التشكيك في أي ثغرة في هذه النظريات مثل نشأة الكون والأجرام السماوية والقوى الطبيعية المعروفة، بل ويسقطون النظرية التي تعجز عن معالجة هذه الثغرات كما انهارت نظرية الكون الثابت(٣). وذلك لأنهم يعتبرون أن القوانين الفيزيائية الطبيعية لا تحتاج لخالق فلا يجدوا ثمة حاجة في تحويل النظريات الخاطئة إلى أيديولوجيا. أما في حالة الداروينية فإشكالية الخلق لا تسمح بوجود بديل مواز لقوانين الفيزياء القابلة للإثبات التجريبي إلا فكرة غير خاضعة للإثبات مثل فكرة التطور، ولهذا أخذت كما هي وكأنها مسلّمة.
من هنا تحولت نظرية داروين إلى اعتقاد "ديني" بدلا من أن تكون علما خاضعا لقواعد العلم الحديث بالتجربة والبرهان وإغلاق ثغرات التناقض والغموض. وعوضا أن تكون حلا للمعضلة الدينية عند العلمانيين تحولت بذاتها إلى دين يؤمن به العلمانيون هكذا مسلّما دون نقاش. وغلاة الداروينيين من الملحدين حين يناقشون النظرية أمام معارضيها يستخدمون أسلوبا شبيها بإثبات المؤامرات الذي يتحدث عن المبررات ويتفادى الآليات، لأن هذا هو الأسلوب الوحيد للانتصار لنظريتهم.
الانتخاب الطبيعي والتطور
يخلط كثير ممن يقرأ عن نظرية داروين بين مسألتين وردتا في النظرية: الأولى هي الانتخاب الطبيعي والثانية هي التطور. ومع أن داروين ربط بينهما لكن الحقيقة أنهما مفهومان مختلفان يمكن التعامل معهما باستقلال كامل. وهذا الخلط مربك لاختلاف المفهومين ليس في المعنى فحسب بل حتى في الموقف العقدي والمنطقي.
يقصد بالانتخاب الطبيعي بقاء وتكاثر الكائنات القادرة على العيش في ظروف معينة، وانقراض الكائنات غير القادرة على تحمل تلك الظروف أو اختفائها من ذلك المكان وتلك الظروف، حتى لو استمرت تتكاثر في مكان وظرف آخر. والانتخاب الطبيعي لم يعترض عليه أحد من العلماء، بل هو حقيقة معروفة وملاحظة على مر التاريخ ولا تحتاج لداروين. والانتخاب الطبيعي ملاحظ كذلك حتى داخل كل نوع من الأنواع، فالحيوانات التي تتحمل ظروف الجفاف والقحط تعيش في الصحراء ويختفي غيرها من الصحراء وكذا الحيوانات التي تتحمل العيش في الجليد والبرد.
أما التطور فيقصد به عملية تحول حقيقي في الكائنات، من نوع إلى نوع ثم من جنس إلى جنس ثم من فصيلة إلى فصيلة، وهكذا إلى أن تصل إلى أعلى مستويات الحياة، إما استجابة للظروف أو بذاتها. هذا التحول -كما يزعم الداروينيون- هو استجابة للظروف وتكامل في الحياة بدلا من الانقراض أو الاختفاء.
ولم يكن داروين حريصا على الانتخاب الطبيعي بذاته بل كان يريده جسرا للتطور، لأن عماد النظرية هو بقاء وتكاثر الحيوانات التي تستطيع أن تتفاعل تلقائيا مع التغييرات بتغيير في تركيبتها وفسيولوجيتها. وهذا الارتباط "الذرائعي" بين الانتخاب الطبيعي والتطور هو الذي شوه معنى الانتخاب الطبيعي وأشكل على البعض فاعتبره مرفوضا بسبب ربطه بالتطور.
لا تزال في المرحلة الثانية من الطريقة العلمية
لا يمكن أن تضاف معلومة لقائمة المعارف البشرية طبقا للطريقة العلمية الحديثة (Scientific Method)، إلا أن تمر بالمراحل الأربعة المعروفة:١) ملاحظة ٢) نظرية ٣) تجربة ٤) إثبات. ونظرية داروين لا يمكن أن تخضع للتجربة لأن تفاصيل النظرية ذاتها تجعل التجربة مستحيلة ولذلك بقيت، وستبقى، عند الخطوة الثانية.
ومع ذلك يجري التعامل مع نظرية داروين أكثر من كونها مثبتة إلى اعتبارها منهجا شاملا لتفسير تنوع الكائنات الحية بما لا مجال للشك فيه. وخصوم نظرية داروين من علماء الأحياء المشهورين عالميا تمكنوا من دحضها بسهولة في حدود مفهوم النظرية، لكن لم يستطيعوا تعطيل مرجعيتها الشاملة للنظرية في علم الإحياء. والسبب هو كونها ركنا أساسيا من أركان العلمانية الحديثة، لأنها وفرت مخرجا "عبقريا" للهروب من التفسير الديني للحياة. (٤)
الداروينية الخام والداروينية التفصيلية
وضع داروين نظريته قبل ١٦٥ عاما بشكل بسيط على أساس خيالي مبني على فرضية الانتقال من نوع إلى نوع دون تحديد الآلية ولا رسم خريطة كاملة لمسيرة التطور بين للكائنات الحية ولا إشارة إلى بداية خلق الكائنات الحية. وسبب اقتصاره على الفرضية العامة دون الباقي هو أن داروين ظهر قبل التطور الحديث في علم الأحياء والكائنات الدقيقة والكيمياء الحيوية وعلم الجينات وقبل اكتمال تتبع وتصنيف معظم الكائنات الحية. ولهذه الأسباب لم يستطع داروين أن يتحدث عن البداية الأولى لخلق الكائنات الحية ولم يستطع أن يصف آلية التطور تحديدا إلا بعموميات لا تسمن ولا تغني من جوع.
بعد داروين حصلت ثلاث تطورات كان المتحمسمون للنظرية بحاجة ماسة لها من أجل استكمال تشكيلها في تفصيل مقبول. التطور الأول: هو معرفة تركيب المواد الكيميائية الخاصة بالكائنات الحية وهو ما أطلق عليه علم الكيمياء الحيوية، والثاني هو تصنيف معظم الكائنات الحية من نباتات وحيوانات وكائنات أخرى، والثالث هو ظهور علم عظيم يعتبر أهم قفزة في دراسة الأحياء (علم الجينات). بعد تراكم هذه العلوم حاول المتحمسون للداروينية تطويعها لخدمة النظرية على الشكل التالي:
أولا : استفادوا من علم الكيمياء الحيوية فزعموا حصول تفاعلات كيميائية أدت إلى ظهور الكائنات البدائية جدا. وبدأت التجارب منذ بداية الخمسينات بتخليق خلية من مواد شبه عضوية وظروف مماثلة لبداية الخليقة ولم يقتربوا مجرد اقتراب حتى الآن فضلا عن أن يصنعوا خلية. واقصى ما توصلوا له هو تكوين بعض المركبات الكيميائية بإضافة النيتروجين للكربون والماء، وهي لا تعني شيئا في مسيرة خلق الكائنات الحية. (٥)
ثانيا : استفادوا من تكامل التصنيف الأحيائي في جمع أسماء وأوصاف معظم الكائنات الحية، للمحاولة في وضعها في شجرة تبين تفرع الكائنات الحية من البداية إلى النهاية في سلسلة خاضعة لمفهوم التطور تبدأ بأحادية الخلية وتنتهي بالإنسان. المشكلة في هذه الشجرة أنها مبنية على التشابه التشريحي والوظيفي وليست مبنية على أي دليل وراثي أو ارتباط جيني محدد وبهذا فرسمها على شكل شجرة وراثية ليس إلا استكمالا لخيال داروين الواسع.
ثالثا : زعموا أن علم الجينات يوضح آلية الانتقال بما يسمى الطفرات الوراثية التي تغير التركيب والوظيفة من خلال إعادة برمجة الجينات. وفي الحقيقة لم يضيفوا شيئا سوى أن مزاعم داروين الخيالية في انتقال الحيوانات من نوع إلى نوع جعلوها بلغة الجينات دون أن يفترضوا أي آلية. بل إن علم الجينات كشف بشكل واضح استحالة النظرية حين تبين تعقيد برمجة الكائنات الحية بسلسلة الحمض النووي الذي يحتوي شفرات بالمليارات.
ثغرات الداروينية
لولا احتفاء العلمانية بنظرية داروين لم يكن لها أي قيمة علمية، لأنها لا تعدو أن تكون وصفا لملاحظة لم يتم بيان آلياتها ولن يتم. وبهذا الاعتبار يفترض أن لا حاجة لتفنيد نظرية داروين لأنه سيكون مثل تفنيد شبهة خرافية والخرافة لا تحتاج إلى تفنيد. لكن هذا الانتشار للنظرية والاحتفاء بها يجعل التفنيد ضرورة حتى لوكانت النظرية في أصلها فكرة خرافية.
تتحول الحيوانات -طبقا لداروين- من نوع إلى نوع استجابة للظروف فتتغير الأصداف في السمك إلى ريش في الطيور وشعر في الثدييات الخ. السؤال المهم هو كيف يحصل هذا التحول؟ وماذا يحصل بالضبط على مستوى كل خلايا هذا الكائن؟ هم يزعمون أن التحول يحصل بمبدأ تكرار الاحتمالات وفشل كل المحاولات الخطأ إلى أن يتخلق كائن جديد بمواصفات جديدة كلها صواب ليس فيها خطأ.
الثغرة الأولى: كم وقت يحتاجه التطور؟
يعتبر الداروينيون نظام الاحتمالات وهو كيفية حساب عدد المحاولات الخاطئة التي يجب أن تتم قبل أن ينتج المحاولة الصحيحة بديلا عن الخلق المتقن. وبناء على هذا الحساب فإن عدد المحاولات التي يجب أن تحصل حتى ينتج كائن سليم هو واحد أمامه أكثر من مئة صفر (ترليون ترليون ترليون ترليون ترليون ترليون ترليون ترليون ترليون تريليون).
وبما أن كل محاولة تحتاج إلى جيل من أجيال الحيوان (عادة سنة) حتى تؤتي النتيجة الصحيحة، فإن الوقت الذي تحتاجه خطوة واحدة من خطوات التطور هي ضعف عمر الكون بترليون ترليون ترليون ترليون ترليون ترليون ترليون ترليون مرة (عمر الكون ١٤ مليار سنة فقط. أما إذا كان المقصود كامل خطوات التطور فإن الصفحات تمتلئ بالأصفار من عدد السنين لإتمام التطور. هذا الرد البسيط يبين مدى خرافية نظرية داروين ولهذا تؤخذ كمسلمة دون نقاش.
الثغرة الثانية: أين الكائنات الخطأ؟
تتمة لقانون الاحتمالات فإن المحاولات التريليون تريليونية ( واحد أمامه مئة صفر) قبل أن نتتج كائنا سليما متكاملا فإنها تنتج كائنات مشوهة بعدد هذه المحاولات الخاطئة. وهذا يعني أن الأرض يجب أن تكون مليئة بتريليونات الكائنة المشوهة المبعثرة في كل مكان كدليل على الاحتمالات الكثيرة الخاطئة، سواء في تكاثر الحيوانات الحالي أو في الكائنات المنقرضة التي تركت آثارا تدل على تركيبها.
ومن المقطوع به أن كل الكائنات الحية التي نعرفها سليمة التركيب وغير مشوهة فأين هذه الكائنات المشوهة التي تحدث عنها داروين؟ الأعجب من ذلك أن كل علماء الأحياء بمن فيهم المتطرفين داروينيا حين يبحثون عن تركيب ووظيفة الكائنات الحية دائما يفترضون الكمال والإتقان لأنهم لم يروا فيها إلا الاتقان والإبداع.
الثغرة الثالثة: كيف تعيش الكائنات بلا شبكة حياة؟
اكتشف علماء الأحياء أن الكائنات الحية لا يمكن أن تعيش بمعزل عن بعضها لأنها تحتاج إلى بعضها في دورة غذائية وبيئية تكاملية، تجعل وجود كائن حي لوحده مستحيلا. ويتفاجأ العلماء في كل مرة بأهمية حيوانات كان يظن أن ليس لها قيمة في كونها أساسية لهذه الشبكة. دابة الأرض مثلا لو انقرضت اختفى البساط الأخضر من أفريقيا ومن ثم كل الحيوانات العشبية ومن ثم كل الحيوانات المفترسة.
هذه الشبكة المتكاملة تعني أنه لا بد أن منظومة كاملة من الكائنات الحية نشأت دفعة واحدة، ويستحيل أن تكون الكائنات وجدت مستقلة ثم تفرعت وأضافت أنواعا جديدا أكملت هذه الشبكة. بل إن هذا التكامل يتعدى الكائنات الحية إلى تكامل مع البيئة Eco system فلا يمكن أن توجد هذه الشبكة من الكائنات الحية إلا في بيئة مثالية لتكاثرها جميعا. ومرة أخرى يفاجئك علماء الأحياء وحتى المتطرفين داروينيا بروعة التكامل والتوازن في هذه الشبكة وكأنهم يدعونك للإيمان بالله من حيث لا يشعرون.
الداروينية والدين
الداروينيون من العلمانيين لا يحملون هم التوفيق بين الداروينية والدين، لأن الدين ليس مرجعا ولا قضية عندهم، وإبعاد الدين عن "العلوم" مطلب أساسي من مطالبهم. وحتى أصحاب الديانات من غير المسلمين لا تشكل الداروينية تحديا لتدينهم لأن الإيمان بالإله في معظم هذه الأديان يعطي مساحة للقبول بالداروينية.
وكانت المسيحية مقاوما شرسا للداروينية لكن الكاثوليك أعلنوا الاستسلام، فأصدر الفاتيكان في الخمسينات إعلانا يتقبل فيه نظرية داروين . والسبب ليس قوة الداروينية لكنه ضعف الطرح النصراني الذي يحصر الكون كله في ستة آلاف سنة في سيناريو غريب للخلق أكثر غرابة من الداروينية. (٦)
الإسلام لا يمكن أن يقبل من نظرية داروين إلا الانتخاب الطبيعي، لأنه حقيقة معروفة مثبتة وتحصل بشكل مستمر أمام الأعين ولا حرج مطلقا في القبول بها. أما التطور بمفهومه الدارويني فيتعارض جملة وتفصيلا مع الإسلام سواء في نشأة الخلق أو في التطور من نوع إلى نوع أو في خلق الإنسان تحديدا.
الموائمة مع الإسلام
بعض "التنويريين" الإسلاميين أخذهم هذا الاكتساح لنظرية داروين كمنهج في علم الأحياء يخجلون من معارضة الإسلام للداروينية، لأنها -في ظنهم- من أركان "العلم الحديث"، فبحثوا عن طريقة لتبرئة الإسلام من معارضة داروين. ولكن لأنهم لا يستطيعون القبول بها بصورتها الكاملة خاصة مع الآيات والأحاديث الثابتة تجدهم يلجأون إلى حيلتين لتحقيق ذلك. (٧)
الحيلة الأولى هي تلطيف النظرية حتى تبدو وكأنهاغير متعارضة مع الخلق، وذلك بتحويل مفهوم التطور الذي يحصل في المخلوقات تلقائيا كما هو في أصل النظرية إلى تطور يحصل بتقدير الله وإرادته. هذا الوصف للتطور سماه عمرو الشريف "التطور الموجه" وسماه عدنان إبراهيم "التطوير". وتحاشى أصحاب هذا الطرح في البداية مناقشة بداية الخلق أو أصل الإنسان واكتفوا بالتطوير الموجه. (٨)
لكن يبدو أن كسر الحاجز في تقديس نظرية داروين أقنعهم أخيرا أن يكملوا المسيرة، فزعموا أن بداية الخلق يمكن أن تكون فعلا تفاعلات كيميائية انتجت كائنات حية، وزعموا أن آدم ليس كائنا مستقلا بل هو نتاج تطور من كائنات (بشرية) أخرى. وليس من تفسير لهذا التوفيق التلفيقي إلا عقدة النقص أمام الغرب المتمكن، الذي صارت فيه نظرية داروين ثقافة راسخة.(٩)
الحيلة الثانية هي التلاعب بتفسير الآيات وشرح الأحاديث حتى تتوافق مع هذا التعديل في النظرية. ففي إثبات التطور يحورون تفسير قوله تعالى (وقد خلقكم أطوارا) وقوله تعالى (يزيد في الخلق ما يشاء) وفي إثبات بداية الخلق يحورون تفسير قوله تعالى (وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء). وبعضهم يذهب لأبعد من ذلك وهو الاعتماد على نصوص مكذوبة أوضعيفة جدا أو إسرائيليات، فيسوقها حتى يقوي حجته، مثل الآثار المروية عن بن عباس عن أدميين قبل آدم وعن تفاصيل خلق آدم.
------- الهامش ------
* للأمانة جزء كبير من هذا المقال استفدته من بعض المختصين.
١) لم يكن أثر الداروينية في علم الأحياء فقط بل تعداه إلى إعادة تأسيس الفكر الغربي كله خاصة في السياسة والاجتماع فأصبح البشر أكثر استعدادا للرأسمالية الشرسة والتصنيف العنصري للإنسان. وللمسيري وجهة نظر جميلة في هذا الموضوع تجدها في مقاله الحداثة الإنسانية والحداثة الداروينية
٢) فيلم وثائقي جميل لمذيع البي بي سي القدير اندرو مار يتحدث فيه عن اقتحام الداروينية للفكر كله في أوربا واحتفاء العلمانيين بها إضغط هنا.
٣) نظرية كونية سقطت كانت مبنية على أساس أن الكون موجود أزليا بقوانينه المعروفة ثم انهارت تماما بعد أن أمكن إثبات نظرية الانفجار العظيم واستحالة الكون الثابت
٤) راجع مقالنا تحدي العلمانية.
٥)اشتهر من هذه التجارب تجربة ميلر أوري التي حاول محاكاة ظروف بداية الخلق بالضغط والحرارة ونوعية المواد الكيميائية ثم تمخض الجبل عن فأر. وبالمناسبة لم يذكر داروين شيئا في كتابه الأساسي "أصل الأنواع" عن نشأة الخلق الأولى لكن وجد في بعض مراسلاته الشخصية إشارة عابرة بقوله إنه يعتقد أن الحياة بدأت في بركة دافئة توفرت فيها ظروف اختلاط المواد الكيميائية لانطلاق الحياة!!
٦) قدمت الكنيسة التنازلات منذ ١٩٥٠ حين أصدر البابا بيوس الثاني عشر، انه لا يوجد خلاف أساسي بين نظرية التطور والمسيحية، ثم تطور الموقف إلى قبول صريح بالنظرية سنة ١٩٩٦ ثم تطور الموقف قبل عام إلى تبني النظرية
لكن البروتستانت الأصوليين لا يزالون يرفضون النظرية بحماس ويضغطون في الولايات المتحدة التي لهم سطوة فيها بمحاربتها قانونيا.
٧)الشعور بالنقص أمام الغرب القوي وتقديم التنازلات العقدية والمنهجية والفكرية ناقشناه بشكل مستفيض في مقالنا
رحلة نفسية مع التنويريين..
٨) يعتقد هؤلاء أنهم حلو الثغرة الأولى والثانية في التطور فلا حاجة لقانون الاحتمالات لأن الله هو الذي يطور. والحقيقة هذا فيه قدح في قدرة الله وكمال علمه فكيف لله أن يكون بحاجة للتجربة حتى يطور مخلوقاته مثلما يطور الإنسان مخترعاته؟ وما الحاجة أصلا أن يفسر الإنسان الخلق بالتطور إذا كان مؤمنا بالخالق (الذي أحسن كل شي خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين)؟ أما الثغرة الثالثة فلم اطلع على اقتراح منهم في حلها.
٩) ملخص أفكار عمرو الشريف في تعديل نظرية التطور لتناسب الإسلام .