أم كلثوم الفكرة والذكرى

طارق عباس - المصري اليوم





http://e.top4top.net/m_36iahx1.mp3

____________________________



الإصرار على النجاح بداية النجاح، والرغبة في التميز تأتي من فهم الإنسان لذاته، واستكشافه مكامن تميزه، وقدراته، ورغبته فى صقل مواهبه، واستغلال كل الإمكانيات المتاحة، مهما كانت محدودة، فلا فرق بين شخص وآخر إلا بقوة الإرادة، فكلنا يفكر، وكلنا يأكل ويشرب ويتنفس، وكلنا يحلم أن يكون نجماً في سماء الشهرة، يُشار إليه بالبنان، لكن قوة العزيمة ووضوح الهدف هما المميزان الأساسيان لكل مَن يبحث لنفسه عن مكانة متفردة.


الأحلام ملك للجميع، ليس من حق أحد أن يحرم نفسه أو الآخرين منها، أما السعي لتحقيقها فمكلف للغاية ويحتاج للكثير من الجهد والوقت والعرق، والكثير من القراءة والدرس والتثقيف، وتفهم الواقع ومعرفة متناقضاته، والعناية باختيار رفقاء مشوار الحياة، وقبل ذلك كله احترام الذات لكسب احترام الآخرين.

كل هذه المنطلقات تصنع إنساناً حقيقياً، يُفيد ويستفيد، يُعلم ويتعلم، يعطي ويأخذ، يخفق وينجح، تماماً مثلما فعلت أم كلثوم التى نحتفل بذكرى ميلادها هذه الأيام.

لم تختبئ أم كلثوم خلف ضعف الإمكانيات، ولم تُسلم نفسها لليأس، رغم معاناتها الأمَرَّيْن، وسقوطها فى براثن الفقر، منذ بداية حياتها وعيشها فى قرية صغيرة هى «طماي الزهايرة» القريبة من مدينة المنصورة، والتي لم يتجاوز عدد سكانها- وقتها- حوالي 1600 أسرة، متحصنين خلف بيوت متواضعة مبنية من الطوب اللبن، لكنها أدركت أن الحياة بلا رؤية تساوي فشلاً، وأن الدنيا لن تبتسم لأحد لا يرى منها سوى الأحزان، وأن الفقر لا يصح أن يغتال العقول. نعم، أم كلثوم لم تُكمل تعليمها ولم تُتح لها وسائل المعرفة الكافية، لكنها كانت حريصة على التخلص من آفة الجهل، والظهور أمام الناس بشخصيتها المثقفة الواعية.

لم تنتظر المعلم، بل سعت إليه، وراحت تلتمسه في كل قرية ومدينة تشدو فيها، تعلمت من والدها التواشيح والمدائح والأشعار الصوفية، تعلمت من الشيخ الملحن أبوالعلا محمد كيف تميز الكلمة الحلوة من الرديئة، تعلمت من القصبجي المقامات الموسيقية وعزف آلة العود والغناء التعبيري، تتلمذت على شاعر الشباب أحمد رامي، وقرأت معه أمهات الكتب والدواوين، وعرفت منه أصول اللغة والشعر وكنوز التراث العربي، وتكون بذلك قد وضعت أقدامها على أول الطريق للأداء الغنائي المتميز لقصائد فحول الشعراء قديماً وحديثاً، وفهمت جيداً منذ البداية أن علاقتها بالناس هى مفتاح نجاحها، واستطاعت طيلة نصف قرن هي عمر مشوارها الفني أن تقيم شبكات ضخمة من العلاقات العامة كانت بمثابة جواز مرور لها نحو ذيوع صيتها وانتشاره، ودخولها الفن من أوسع أبوابه.

بَنَتْ أم كلثوم مدرستها الفنية بعلمها الذي استمدت روافده من كل شىء حولها، تصدت لغناء القصائد، بعد إجادتها التامة اللغة العربية ومخارج حروفها، غَنَّت الأدوار والطقاطيق من مختلف المقامات الموسيقية التي كانت تضيف إليها أبعاد صوتها الكلثومي، غاصت فى بحور النغم لترتجل وتضيف وتمتع.

كان من الممكن أن تكون مجرد صورة لعصرها وتؤثر السلامة، وتقنع بما ستحققه من أرباح ومكاسب، وتغني الأغنيات الهابطة التي كانت شائعة وقتها مثل: «هات الإزازة واقعد لاعبنى- ارخى الستارة اللى فى ريحنا لحسن جيرانك تجرحنا- العتبة كزاز والسلم نايلو في نايلو- بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة- انسى اللي فات وتعالى بات يوم التلات»، إلا أنها لم تفعل، وواجهت تيار الإسفاف الجارف، وأصرت على احترام نفسها وفنها وطريقة لبسها وأدائها الصوتي والجمهور الذي تغني له.

أصرت على احترام الكلمة والظروف التي كانت تعيشها مصر، فحصدت الشهرة والحب والثروة، كما حصلت على العديد من الجوائز والأوسمة مثل وسام الاستحقاق السوري عام 1949 ووسام الأرز اللبناني عام 1955 ووسام النهضة الأردني عام 1965 وقلادة الجمهورية العربية المتحدة عام 1968، وتقديراً لجهودها من أجل دعم مصر من خلال إقامتها العديد من الحفلات فى باريس ولندن وغيرهما من البلدان الأجنبية والعربية، منحها الزعيم جمال عبدالناصر جواز سفر دبلوماسيا، لتكون بذلك أول فنانة فى تاريخ مصر تحصل على مثل هذا الجواز.